فيجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته، وهمومه وعزومه، والعذاب كل العذاب في تفرقتها وتشتتها عليه، وانفراطها له، والحياة والنعيم في اجتماع قلبه وهمه، وعزمه وإرادته.
ويفرق ما اجتمع عليه من الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات، على فوت حظوظه ومطالبه.
ويفرق أيضًا ما اجتمع عليه من ذنوبه، وخطاياه، وأوزاره، حتى تتساقط عنه وتتلاشى وتضمحل.
ويفرق أيضًا ما اجتمع على حربه من جند الشيطان؛ فإن إبليس لا يزال يبعث له سرية بعد سرية، وكلما كان أقوى طلبًا لله – سبحانه وتعالى – وأمثل تعلقًا به وإرادة له، كانت السرية أكثف وأكثر وأعظم شوكة؛ بحسب ما عند العبد من مواد الخير والإرادة، ولا سبيل إلى تفريق هذا الجمع إلا بدوام الذكر.
وأما تقريبه البعيد، فإنه يقرب إليه الآخرة التي يبعدها منه الشيطان والأمل، فلا يزال يلهج بالذكر حتى كأنه قد دخلها وحضرها، فحينئذ تصغر في عينه الدنيا، وتعظم في قلبه الآخرة.
ويبعد القريب إليه؛ وهي الدنيا التي هي أدنى إليه من الآخرة؛ فإن الآخرة متى قربت من قلبه بعدت منه الدنيا، كلما قربت منه هذه مرحلة بعدت منه هذه مرحلة، ولا سبيل إلى هذا إلا بدوام الذكر.
الأربعون: أن الذكر ينبه القلب من نومه، ويوقظه من سِنَتِهِ، والقلب إذا كان نائمًا فاتته الأرباح والمتاجر، وكان الغالب عليه الخسران، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر، وأحيا بقية عمره، واستدرك ما فاته، ولا تحصل يقظته إلا بالذكر، فإن الغفلة نوم ثقيل.
الحادية والأربعون: أن الذكر شجر تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها؛ إلا من شجرة الذكر، وكلما عظمت تلك الشجرة، ورسخ أصلها كان أعظم لثمرتها.
فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كل مقام وقاعدته التي ينبني ذلك المقام عليها؛ كما يبنى الحائط على رأسه، وكما يقوم السقف على حائطه؛ وذلك أن العبد إن لم يستيقظ لم يمكنه قطع منازل السير، ولا يستيقظ إلا بالذكر – كما تقدم؛ فالغفلة نوم القلب أو موته.
الثانية والأربعون: أن الذاكر قريب من مذكوره، ومذكوره معه، وهذه المعية معية خاصة غير معية العلم والإحاطة التامة؛ فهي معية بالقرب والولاية، والمحبة، والنصرة، والتوفيق؛ كقوله – تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [النحل: 128]، ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249]، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]، ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].
وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر؛ كما في الحديث الإلهي: «أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه»([41]).
والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يشبهها شيء، وهي أخص من المعية الحاصلة للمحسن والمتقي، وهي معية لا تدركها العبارة، ولا تنالها الصفة، وإنما تعلم بالذوق ([42])، وهي مزلة أقدام إن لم يصحب العبد فيها تمييزٌ بين القديم ([43]) والمحدث، بين الرب والعبد، بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود، وإلا وقع في حلول يضاهي به النصارى، أو اتحاد يضاهي به القائلين بوحدة الوجود، وأن وجود الرب عين وجود هذه الموجودات؛ بل ليس عندهم رب وعبد، ولا خلق وحق؛ بل الرب هو العبد، والعبد هو الرب، والخلق المشبه هو الحق المنزه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا.
والمقصود أنه إن لم يكن مع العبد عقيدة صحيحة، وإلا فإذا استولى عليه سلطان الذكر، وغاب بمذكوره عن ذكره وعن نفسه ولج في باب الحلول والاتحاد ولا بد.
الثالثة والأربعون: أن الذكر يعدل عتق الرقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله – عز وجل – ويعدل الضرب بالسيف في سبيل الله – عز وجل.
وقد تقدم أن «من قال في يوم مئة مرة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه حتى يمسي» الحديث ([44]).
وقد تقدم حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟».
قالوا: بلى يا رسول الله!
قال: «ذكر الله». رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ([45]).
الرابعة والأربعون: أن الذكر رأس الشكر، فما شكر الله – تعالى – من لم يذكره.
قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله – تعالى – على كل أحيانه ([46]).
ولم تستثن حالة من حالة، وهذا يدل على أنه كان يذكر ربه – تعالى – في حال طهارته وجنابته.
وأما حال التخلي فلم يكن يشاهده أحد يحكي عنه، ولكن شرع لأمته من الأذكار قبل التخلي وبعده ما يدل على مزيد الاعتناء بالذكر، وأنه لا يخل به عند قضاء الحاجة وبعدها، وكذلك شرع للأمة من الذكر عند الجماع أن يقول أحدهم: «بسم الله، اللهم جَنَّبْنا الشيطان، وجَنَّبِ الشيطان ما رزقتنا»([47]).
وأما عند نفس قضاء الحاجة، وجماع الأهل، فلا ريب أنه لا يكره بالقلب؛ لأنه لا بد لقلبه من ذكر، ولا يمكنه صرف قلبه عن ذكر من أهو أحب شيء إليه؛ فلو كلف القلب نسيانه، لكان تكليفه بالمحال، كما قال القائل:
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
فأما الذكر باللسان على هذه الحالة فليس مما شرع لنا، ولا ندبنا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نقل عن أحد من الصحابة – رضي الله عنهم.
ويكفي في هذه الحال استشعار الحياء، والمراقبة، والنعمة عليه في هذه الحالة، وهي من أجَلِّ الذكر؛ فذكر كل حال بحسب ما يليق بها، واللائق بهذه الحال التقنع بثوب الحياء من الله – تعالى – وإجلاله، وذكر نعمته عليه، وإحسانه إليه في إخراج هذا العدو المؤذي له الذي لو بقي فيه لقتله؛ فالنعمة في تيسير خروجه كالنعمة في التغذي به.
وكذلك ذكره حال الجماع، ذكر هذه النعمة التي منَّ بها عليه، وهي أجلُّ نعم الدنيا، فإذا ذكر نعمة الله – تعالى – عليه بها هاج من قلبه هائج الشكر؛ فالذكر رأس الشكر.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «والله يا معاذ! إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»([48])([49]).
فجمع بين الذكر والشكر كما جمع – سبحانه وتعالى – بينهما في قوله – تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152].
فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح.
الخامسة والأربعون: أن أكرم الخلق على الله – تعالى – من المتقين من لا يزال لسانه رطبًا بذكره؛ فإنه اتقاه في أمره ونهيه، وجعل ذكره شعاره.
فالتقوى أوجبت له دخول الجنة، والنجاة من النار، وهذا هو الثواب والأجر.
والذكر يوجب له القرب من الله – عز وجل – والزلفى لديه وهذه هي المنزلة.
وعمال الآخرة على قسمين:
منهم من يعمل على الأجر والثواب.
ومنهم من يعمل على المنزلة والدرجة؛ فهو ينافس غيره في الوسيلة والمنزلة عند الله – تعالى – ويسابق إلى القرب منه.
وقد ذكر الله – تعالى – النوعين في سورة الحديد، في قول الله – تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 18].
فهؤلاء أصحاب الأجور والثواب.
ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ [الحديد: 19]؛ فهؤلاء أصحاب المنزلة والقرب، ثم قال: ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ [الحديد: 19].
فقيل: هذا عطف على الخبر من ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾، أخبر عنهم بأنهم هم الصديقون، وأنهم الشهداء الذين يشهدون على الأمم، ثم أخبر عنهم أن لهم أجرًا، وهو قوله – تعالى: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾؛ فيكون قد أخبر عنهم بأربعة أمور:
أنهم صديقون، وشهداء، فهذه هي المرتبة والمنزلة.
قيل: ثم الكلام عند قوله – تعالى: [الصديقون].
ثم ذكر بعد ذلك حال الشهداء، فقال: ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾.
فيكون قد ذكر المتصدقين أهل البر والإحسان، ثم المؤمنين الذين قد رسخ الإيمان في قلوبهم، وامتلؤوا منه؛ فهم الصديقون، وهم أهل العلم والعمل، والأولون أهل البر والإحسان، ولكن هؤلاء أكمل صديقية منهم.
ثم ذكر الشهداء، وأنه – تعالى – يُجري عليهم رزقهم ونورهم؛ لأنهم لما بذلوا أنفسهم لله – تعالى – أثابهم الله – تعالى – عليها أن جعلهم أحياء عنده يرزقون، فيجري عليهم رزقهم ونورهم، فهؤلاء السعداء.
ثم ذكر الأشقياء، فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [المائدة: 10].
والمقصود أنه – سبحانه وتعالى – ذكر أصحاب الأجور والمراتب، وهذان الأمران هما اللذان وعدهما فرعون السحرة إن غلبوا موسى – عليه الصلاة والسلام – فقالوا: ﴿إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء: 41، 42].
أي: أجمع لكم بين الأجر والمنزلة عندي والقرب مني.
فالعمال عملوا على الأجور، والعارفون عملوا على المراتب والمنزلة والزلفى عند الله، وأعمال هؤلاء القلبية أكثر من أعمال أولئك، وأعمال أولئك البدنية قد تكون أكثر من أعمال هؤلاء.
السادسة والأربعون: أن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله – تعالى – فينبغي أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله – تعالى.
السابعة والأربعون: أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه؛ فالقلوب مريضة، وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى.
قال مكحول: ذكر الله – تعالى – شفاء، وذكر الناس داء.
كما قيل:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم
فنترك الذكر أحيانًا فننتكس
الثامنة والأربعون: أن الذكر أصل موالاة الله – عز وجل – ورأسها، والغفلة أصل معاداته ورأسها؛ فإن العبد لا يزال يذكر ربه – عز وجل – حتى يحبه فيواليه، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه فيعاديه.
قال الأوزاعي: قال حسان بن عطية: ما عادى عبد ربه بشيء أشد عليه من أن يكره ذكره أو من يذكره.
فهذه المعاداة سببها الغفلة، ولا تزال بالعبد حتى يكره ذكر الله ويكره من يذكره، فحينئذ يتخذه عدوًا؛ كما اتخذ الذاكر وليًا.
التاسعة والأربعون: أنه ما استجلبت نعم الله – عز وجل – واستدفعت نقمه بمثل ذكر الله – تعالى؛ فالذكر جلاب للنعم، دافع للنقم؛ قال – سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [الحج: 38].
وفي القراءة الأخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ ([50])﴾ [الحج: 38].
فدفعه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله – تعالى ؛ فمن كان أكمل إيمانًا، وأكثر ذكرًا كان دفع الله – تعالى – عنه ودفاعه أعظم، ومن نقص نقص ذكرًا بذكر، ونسيانًا بنسيان.
وقال – سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].
والذكر رأس الشكر كما تقدم، والشكر جلاب النعم، وموجب للمزيد.
قال بعض السلف – رحمة الله عليهم: ما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن ذكرك ([51]).
الخمسون: أن الذكر يوجب صلاة الله – عز وجل – وملائكته على الذاكر، ومن صلى الله – تعالى – عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح، وفاز كل الفوز.
قال – سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 41 - 43].
فهذه الصلاة منه – تبارك وتعالى – ومن ملائكته إنما هي سبب الإخراج لهم من الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله – تبارك وتعالى – وملائكته وأخرجوهم من الظلمات إلى النور؛ فأي خير لم يحصل لهم؟! وأي شر لم يندفع عنهم؟!
فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله، وبالله التوفيق.
الحادية والخمسون: أن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا؛ فليستوطن مجالس الذكر؛ فإنها رياض الجنة.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا وغيره من حديث جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا أيها الناس! ارتعوا في رياض الجنة».
قلنا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟
قال: «مجالس الذكر».
ثم قال: «اغدوا وروحوا واذكروا، فمن كان يجب أن يعلم منزلته عند الله؛ فلينظر كيف منزلة الله تعالى عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه»([52]).
الثانية والخمسون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله – تعالى – فيه، كما أخرجاه في «الصحيحين» من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله ملائكة فُضُلاً عن كتاب الناس، يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله – تعالى - تنادوا: هَلُمُّوا إلى حاجتكم».
قال: «فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا».
قال: «فيسألهم ربهم تعالى – وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟».
قال: «يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك».
قال: «فيقول: هل رأوني؟».
قال: «فيقولون: لا والله ما رأوك».
قال: «فيقول: كيف لو رأوني؟».
قال: «فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تحميدًا وتمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا».
قال: فيقول: «ما يسألونني؟».
قال: «يسألونك الجنة».
قال: «فيقول: وهل رأوها؟».
قال: «يقولون: لا والله يا رب! ما رأوها».
قال: «فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟».
قال: «يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة».
قال: «فيقول: فمم يستعيذون؟».
قال: «من النار».
قال: «يقول: وهل رأوها؟».
قال: «يقولون: لا والله يا رب! ما رأوها».
قال: «يقول: فكيف لو رأوها».
قال: «يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافة».
قال: «يقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم».
قال: «فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة.
قال: «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»([53]).
فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم؛ فلهم نصيب من قوله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ [مريم: 31].
فهكذا المؤمن مبارك أين حل، والفاجر مشؤوم أين حل.
فمجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس الغفلة مجالس الشياطين، وكل مضاف إلى شكه وأشباهه، وكل امريء يصير إلى ما ينسبه.
الثالثة والخمسون: أن الله – عز وجل – يباهي بالذاكرين ملائكته كما روى مسلم في «صحيحه» عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟
قالوا: جلسنا نذكر الله – تعالى.
قال: آلله، ما أجلسكم إلا ذاك؟
قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة من أصحابه، فقال: «ما أجلسكم؟».
قالوا: جلسنا نذكر الله – تعالى، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا.
قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟».
قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل، فأخبرني أن الله – تبارك وتعالى – يباهي بكم الملائكة»([54]).
فهذه المباهاة من الرب – تبارك وتعالى – دليل على شرف الذكر عنده، ومحبته له، وأن له مزية على غيره من الأعمال.
الرابعة والخمسون: أن مدمن الذكر يدخل الجنة وهو يضحك.
الخامسة والخمسون: أن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله – تعالى – والمقصود بها تحصيل ذكر الله – تعالى.
قال – سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:14].
قيل: المصدر مضاف إلى الفاعل؛ أي: لأذكرك بها.
وقيل: مضاف إلى المذكور؛ أي: لتذكروني بها، واللام في هذا لام التعليل.
وقيل: هي اللام الوقتية؛ أي: أقم الصلاة عند ذكري؛ كقوله: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: 78].
وقوله – تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء: 47].
وهذا المعنى يراد بالآية؛ لكن تفسيرها به يجعل معناها فيه نظر؛ لأن هذه اللام الوقتية يليها أسماء الزمان والظروف، والذكر مصدر، إلا أن يقدر زمان محذوف؛ أي: عند وقت ذكري، وهذا محتمل.
والأظهر أنها لام التعليل؛ أي: أقم الصلاة لأجل ذكري، ويلزم من هذا أن تكون إقامتها عند ذكره، وإذا ذكر العبد ربه فذكر الله – تعالى – سابق على ذكره، فإنه لما ذكره ألهمه ذكره؛ فالمعاني الثلاثة حق.
وقال – سبحانه وتعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].
فقيل: المعنى: إنكم في الصلاة تذكرون الله، وهو ذاكر من ذكره، ولذكر الله – تعالى – إياكم أكبر من ذكركم إياه.
وهذا يروى عن ابن عباس، وسلمان، وأبي الدرداء، وابن مسعود – رضي الله عنهم.
وذكر ابن أبي الدنيا عن فضيل بن مرزوق عن عطية: [ولذكر الله أكبر]؛ قال: هو قوله – تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾؛ فذكر الله – تعالى – لكم أكبر من ذكركم إياه.
وقال ابن زيد وقتادة: معناه: وذكر الله أكبر من كل شيء.
وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن؟! [ولذكر الله أكبر].
ويشهد لهذا حديث أبي الدرداء المتقدم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ...» الحديث ([55]).
وكان شيخ الإسلام أبو العباس – قدس الله روحه – يقول: الصحيح أن معنى الآية أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله – تعالى – ولما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر.
وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه سئل: أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر.
السادسة والخمسون: أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله – عز وجل ؛ فأفضل الصوام أكثرهم ذكرًا لله – عز وجل – في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرًا لله – عز وجل – وأفضل الحاج أكثرهم ذكرًا لله – عز وجل – وهكذا سائر الأحوال.
وقال عبيد بن عمير: إن أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه، وبخلتم بالمال أن تنفقوه، وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله – عز وجل.
السابعة والخمسون: أن إدامته تنوب عن التطوعات، وتقوم مقامها، سواء كانت بدنية، أو مالية، أو بدنية مالية؛ كحج التطوع.
وقد جاء ذلك صريحًا في حديث أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم.
فقال: «وما ذاك؟».
قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم، يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون.
فقال: «ألا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا أحد يكون أفضل منكم إلا من صنع ما صنعتم».
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: «تسبحون، وتحمدون، وتكبرون خلف كل صلاة ...» الحديث متفق عليه ([56])([57]).
فجعل الذكر عوضًا لهم عما فاتهم من الحج، والعمرة، والجهاد، وأخبر أنهم يسبقونهم بهذا الذكر.
فلما سمع أهل الدثور بذلك عملوا به، فازدادوا – إلى صدقاتهم وعبادتهم بمالهم – التعبد بهذا الذكر، فحازوا الفضيلتين، فنافسهم الفقراء، وأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم قد شاركوهم في ذلك، فانفردوا عنهم بما لا قدرة لهم عليهم، فقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»([58]).
وفي حديث عبد الله بن بسر قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! كثرت علي خلال الإسلام وشرائعه، فأخبرني بأمر جامع يكفيني. قال: «عليك بذكر الله - تعالى».
قال: ويكفيني يا رسول الله؟
قال: «نعم، ويفضل عنك»([59]).
فدله الناصح - صلى الله عليه وسلم - على شيء يعينه على شرائع الإسلام، والحرص عليها، والاستكثار منها؛ فإنه إذا اتخذ ذكر الله – تعالى – شعاره أحبه وأحب ما يحب؛ فلا شيء أحب إليه من التقرب بشرائع الإسلام، فدله - صلى الله عليه وسلم - على ما يتمكن به من شرائع الإسلام، وتسهل به عليه، وهو ذكر الله – عز وجل.
الثامنة والخمسون: أن ذكر الله – عز وجل – من أكبر العون على طاعته، فإنه يحببها إلى العبد، ويسهلها عليه، ويلذذها له، ويجعلها قرة عينه فيها، ونعيمه وسروره بها؛ بحيث لا يجد لها من الكلفة والمشقة والثقل ما يجد الغافل، والتجربة شاهدة بذلك.
التاسعة والخمسون: أن ذكر الله – عز وجل – يسهل الصعب، وييسر العسير، ويخفف المشاق، فما ذكر الله – عز وجل – على صعب إلا هان، ولا على عسير إلا تيسر، ولا مشقة إلا خفت، ولا شدة إلا زالت، ولا كربة إلا انفرجت، فذكر الله – تعالى – هو الفرج بعد الشدة؛ واليسر بعد العسر، والفرج بعد الغم والهم.
الستون: أن ذكر الله – عز وجل – يذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله – عز وجل ؛ إذ بحسب ذكره يجد الأمن، ويزول خوفه، حتى كأن المخاوف التي يجدها أمان له، والغافل خائف مع أمنه، حتى كأن ما هو فيه من الأمن كله مخاوف، ومن له أدنى حسن قد جرب هذا وهذا. والله المستعان.
الحادية والستون: أن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه، وكلامه، وإقدامه، وكتابه أمرًا عجيبًا؛ فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعه وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا.
وقد علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمة وعليًا – رضي الله تعالى عنهما – أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا أربعًا وثلاثين، لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك، وقال: «إنه خير لكما من خادم»([60]).
فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنية عن خادم.
الثانية والستون: أن عُمَّال الآخرة كلهم في مضمار السباق، والذاكرون هم أسبقهم في ذلك المضمار، ولكن القترة والغبار يمنع من رؤية سبقهم، فإذا انجلى الغبار وانكشف رآهم الناس وقد حازوا قصب السبق.
الثالثة والستون: أن الذكر سبب لتصديق الرب- عز وجل – عبده، فإنه أخبر عن الله – تعالى – بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، فإذا أخبر بها العبد صدقه ربه، ومن صدقه الله – تعالى – لم يحشر مع الكاذبين، ورُجي له أن يحشر مع الصادقين.
روى أبو إسحاق عن الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري – رضي الله عنهما – أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا قال العبد: لا إله إلا الله والله أكبر».
قال: «يقول الله – تبارك وتعالى: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، وأنا أكبر.
وإذا قال: لا إله إلا الله وحده.
قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا وحدي.
وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، لا شريك لي.
وإذا قال: لا إله إلا الله، له الملك، وله الحمد.
قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، لي الملك، ولي الحمد.
وإذا قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي.
قال أبو إسحاق:
ثم قال الأغر شيئًا لم أفهمه، قلت لأبي جعفر: ما قال؟ قال: «من رزقهن عند موته لم تمسه النار»([61]).
الرابعة والستون: أن دور الجنة تبنى بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء.
وكما أن بناءها بالذكر، فغراس بساتينها بالذكر؛ كما تقدم في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إبراهيم الخليل – عليه السلام: «أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»([62]). فالذكر غراسها وبناؤها.
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكثروا من غراس الجنة».
قالوا: يا رسول الله! وما غراسها؟
قال: «ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله»([63]).
الخامسة والستون: أن الذكر سد بين العبد وبين جهنم، فإذا كانت له إلى جهنم طريق من عمل من الأعمال كان الذكر سدًا في تلك الطريق، فإذا كان ذكرًا دائمًا كاملًا كان سدًا محكمًا لا منفذ فيه، وإلا فبحسبه.
السادسة والستون: أن الملائكة تستغفر للذاكر؛ كما تستغفر للتائب.
السابعة والستون: أن الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر الله – عز وجل – عليها.
الثامنة والستون: أن كثرة ذكر الله – عز وجل – أمان من النفاق؛ فإن المنافقين قليلوا الذكر لله – عز وجل.
قال الله – عز وجل – في المنافقين: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142].
وقال كعب: من أكثر ذكر الله – عز وجل – برئ من النفاق، ولهذا – والله أعلم – ختم الله – تعالى – سورة المنافقين بقوله – تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون: 9].
فإن في ذلك تحذيرًا من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر الله – عز وجل – فوقعوا في النفاق.
وسئل بعض الصحابة – رضي الله عنهم – عن : منافقون هم؟
قال: لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً.
فهذا من علامة النفاق: قلة ذكر الله – عز وجل ، وكثرة ذكره أمان من النفاق، والله – عز وجل – أكرم من أن يبتلي قلبًا ذاكرًا بالنفاق، وإنما ذلك لقلوب غفلت عن ذكر الله – عز وجل.
التاسعة والستون: أن للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء؛ فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر، والنعيم الذي يحصل لقلبه، لكفى به، ولهذا سميت مجالس الذكر رياض الجنة.
قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله – عز وجل ؛ فليس شيء من الأعمال أخف مؤونة منه، ولا أعظم لذة، ولا أكثر فرحة وابتهاجًا للقلب.
السبعون: أنه يكسو الوجه نضرة في الدنيا، ونورًا في الآخرة؛ فالذاكرون أنضر الناس وجوهًا في الدنيا، وأنورهم في الآخرة.
الحادية والسبعون: أن في دوام الذكر في الطريق، والبيت، والحضر، والسفر، والبقاع، تكثيرًا لشهود العبد يوم القيامة؛ فإن البقعة، والدار والجبل، والأرض، تشهد للذاكر يوم القيامة.
قال – تعالى - ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: 1-5].
فروى الترمذي في «جامعه» من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾.
قال: «أتدرون ما أخبارها؟».
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا وكذا».
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ([64]).
والذاكر لله عز وجل في سائر البقاع مكثر شهوده، ولعلهم أو أكثرهم أن يقبلوه يوم القيامة، يوم قيام الأشهاد، وأداء الشهادات، فيفرح ويغتبط بشهادتهم.
الثانية والسبعون: أن في الاشتغال بالذكر اشتغالاً عن الكلام الباطل من الغيبة، والنميمة، واللغو، ومدح الناس، وذمهم، وغير ذلك، فإن اللسان لا يسكت البتة؛ فإما لسان ذاكر، وإما لسان لاغٍ، ولا بد من أحدهما؛ فهي النفس: إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وهو القلب: إن لم تسكنه محبة الله – عز وجل - سكنه محبة المخلوقين ولا بد، وهو اللسان: إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو عليك ولا بد، فاختر لنفسك إحدى الخطتين، وأنزلها في إحدى المنزلتين.
الثالثة والسبعون: وهي التي بدأنا بذكرها، وأشرنا إليها إشارة، فنذكرها هاهنا مبسوطة لعظيم الفائدة بها، وحاجة كل أحد – بل ضرورته – إليها؛ وهي أن الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه، فما ظنك برجل قد احتوشته أعداؤه المحنقون عليه غيظًا، وأحاطوا به، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشر والأذى؟! لا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله – عز وجل.
فهذا مطابق لحديث الحارث الأشعري – الذي شرحناه في هذه الرسالة – وقوله فيه: «وآمركم بذكر الله – عز وجل، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو، فانطلقوا في طلبه سراعًا، وانطلق حتى أتى حصنًا حصينًا، فأحرز نفسه فيه».
فكذلك الشيطان؛ لا يحرز العباد أنفسهم منه إلا بذكر الله – عز وجل.
وفي الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال – يعني إذا خرج من بيته : بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. يقال له: كفيت، وهديت، ووقيت. وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟!» رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي وقال: حديث حسن ([65]).
وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال في يوم مئة مرة: لا إله إلا وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كانت له حرزًا من الشيطان حتى يمسي»([66]).
وفي «صحيح البخاري» عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: ولاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة رمضان أن احتفظ بها، فأتاني آت، فجعل يحثو الطعام، فأخذته، فقال: دعني؛ فإني لا أعود ... فذكر الحديث وقال: فقال له في الثالثة: أعلمك كلمات ينفعك الله بهن: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخلى سبيله، فأصبح، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله، فقال: «صدقك، وهو كذوب»([67]).
وفي «الصحيحين» من حديث سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما إن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فيولد بينهما ولد، لا يضره شيطان أبدًا»([68]).
وقد ثبت في الصحيح أن الشيطان يهرب من الأذان.
قال سهيل بن أبي صالح: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام – أو صاحب – لنا، فنادى مناد من حائط باسمه، فأشرف الذي معي على الحائط، فلم ير شيئًا، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة؛ فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنَّ الشيطان إذا نُودي بالصلاة ولَّى وله حُصاصٌ».
وفي رواية: «إذا سمع النداء ولي وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين...» الحديث ([69]).
فهذا بعض ما يتعلق بقوله - صلى الله عليه وسلم - لذلك العبد: يحرز نفسه من الشيطان بذكر الله – تعالى.
الرابعة والسبعون: الذكر نوعان:
أحدهما: ذكر أسماء الرب – تبارك وتعالى – وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به – تبارك وتعالى، وهذا أيضًا نوعان:
أحدهما: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث، نحو: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر».
و «سبحان الله وبحمده».
و «لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».
ونحو ذلك؛ فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه؛ نحو: «سبحان الله عدد خلقه»؛ فهذا أفضل من مجرد «سبحان الله»، وقولك: «الحمد لله عدد ما خلق في السماء، وعدد ما خلق في الأرض، وعدد ما بينهما، وعدد ما هو خالق» أفضل من مجرد قولك: «الحمد لله».
وهذا في حديث جويرية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم؛ لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته»([70]).
الخامسة والسبعون: الخبر عن الرب – تعالى – بأحكام أسمائه وصفاته ([71])، نحو قولك: الله – عز وجل – يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وهو على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد راحلته([72])، ونحو ذلك.
وأفضل هذا النوع: الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل.
وهذا النوع أيضًا ثلاثة أنواع: حمد، وثناء، ومجد.
فالحمد لله: الإخبار عنه بصفات كماله – سبحانه وتعالى، مع محبته والرضى به، فلا يكون المحب الساكت حامدًا، ولا المثنى بلا محبة حامدًا حتى تجتمع له المحبة والثناء؛ فإن كرر المحامد شيئًا بعد شيء كانت ثناء؛ فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجدًا.
وقد جمع الله – تعالى – لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة؛ فإذا قال العبد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال: أثنى على عبدي، وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قال: مجدني عبدي ([73]).
السادسة والسبعون: من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه ([74]).
وهو أيضًا نوعان:
أحدهما: ذكره بذلك إخبارًا عنه بأنه أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضي كذا.
والثاني: ذكره عند أمره، فيبادر إليه، وعند نهيه، فيهرب منه، فذكر أمره ونهيه شيء، وذكره عند أمره ونهيه شيء آخر، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر؛ فذِكْرُه أفضل الذكر، وأجله، وأعظمه.
فائدة: فهذا الذكر – من الفقه الأكبر وما دونه – أفضل الذكر إذا صحت فيه النية.
ومن ذكره – سبحانه وتعالى – ذكر آلاءه، وإنعامه، وإحسانه، وأياديه، ومواقع فضله على عبيده، وهذا أيضًا من أجل أنواع الذكر.
فهذه خمسة أنواع.
وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر.
وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية.
وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة.
فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده؛ لأن ذكر القلب يثمر المعرفة، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويَزَع ([75]) عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئًا من هذه الآثار، وإن أثمر شيئًا منها فثمرة ضعيفة.
السابعة والسبعون: الذكر أفضل من الدعاء.
الذكر ثناء على الله – عز وجل – بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟
ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله – تعالى – والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته؛ كما في حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يدعو في صلاته لم يحمد الله – تعالى - ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجل هذا».
ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه – عز وجل – والثناء عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو بعد بما شاء». رواه الإمام أحمد، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ورواه الحاكم في «صحيحه»([76]).
وهكذا دعاء ذي النون – عليه السلام – قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته: [لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين]».
وفي الترمذي: «دعوة أخي ذي النون، إذا دعا وهو في بطن الحوت [لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين] فإنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له»([77]).
وهكذا عامة الأدعية النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام.
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم»([78]).
ومنه حديث بريدة الأسلمي الذي رواه أهل السنن، وابن حبان في «صحيحه» أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يدعو وهو يقول:
اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
فقال: «والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»([79]).
وروى أبو داود والنسائي من حديث أنس أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسًا، ورجل يصلي ثم دعا: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي، يا قيوم».
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»([80]).
فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه هذا الثناء والذكر، وأنه اسم الله الأعظم؛ فكان ذكر الله – عز وجل – والثناء عليه أنجح ما طلب به العبد حوائجه.
وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، وأنه يجعل الدعاء مستجابًا.
فالدعاء الذي يقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته، وافتقاره واعترافه كان أبلغ في الإجابة وأفضل؛ فإنه يكون قد توسل المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرض – بل صرح – بشدة حاجته وضرورته وفقره ومسكنته، فهذا المقتضى منه، وأوصاف المسؤول مقتضى من الله، فاجتمع المقتضى من السائل، والمقتضى من المسؤول في الدعاء، وكان أبلغ وألطف موقعًا، وأتم معرفة وعبودية.
وأنت ترى في الشاهد – ولله المثل الأعلى – أن الرجل إذا توسل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده وبره، وذكر حاجته هو، وفقره ومسكنته، كان أعطف لقلب المسؤول، وأقرب لقضاء حاجته.
فإذا قال له: أنت جودك قد سارت به الركبان، وفضلك كالشمس لا تنكر، ونحو ذلك، وقد بلغت بي الحاجة والضرورة مبلغًا لا صبر معه، ونحو ذلك؛ كان أبلغ في قضاء حاجته من أن يقول ابتداء: أعطني كذا وكذا.
فإذا عرفت هذا، فتأمل قول موسى - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24].
وقول ذي النون - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87].
وقول أبينا آدم - صلى الله عليه وسلم -: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].
وفي «الصحيحين» أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – قال: يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»([81]).
فجمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله، والتوسل إلى ربه – عز وجل – بفضله وجوده، وأنه المنفرد بغفران الذنوب، ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معًا، فهكذا أدب الدعاء وآداب العبودية.
الثامنة والسبعون: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر لكل منهما مجردًا.
وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه، فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة – ذكر التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد – أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن، والقول كما يقول أفضل من القراءة، وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله – تعالى – على خلقه، لكن لكل مقام مقال، متى فات مقاله فيه، وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة، وفقدت المصلحة المطلوبة منه.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن.
مثاله: أن يتفكر في ذنوبه، فيحدث ذلك له توبة من استغفار، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه.
وكذلك أيضًا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله – تعالى – وأحدث له تضرعًا وخشوعًا وابتهالاً، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرًا.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفسه، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه.
فللعين موضع وللرجل موضع، وللماء موضع، وللحم موضع، وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله – تعالى – الموفق.
وهكذا الصابون والأُشنان أنفع للثوب في وقت، والتجمير وماء الورد وكيه أنفع له في وقت.
وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – يومًا: سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد؛ التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإن كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له.
فقال لي – رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟!
ومن هذا الباب أن سورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث، والطلاق، والخلع، والعدد، ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص.
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فهذا أصل نافع جدًا يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها؛ لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها، فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها، فيشتغل به عن مفضولها، وإن كان ذلك وقته، فتفوته مصلحته بالكلية؛ لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا.
وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها، وفقه في إعطاء كل عمل منها حقه، وتنزيله في مرتبته، وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى منه وأفضل؛ لإمكان تداركه والعود إليه، وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه؛ فالاشتغال به أولى، وهذا كترك القراءة لرد السلام، وتشميت العاطس، وإن كان القرآن أفضل؛ لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة؛ فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت، والله – تعالى – الموفق. اهـ.
وتمت هذه الرسالة المباركة والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان آمين.