logo

قديم 21-05-2014, 06:00 PM
  المشاركه #1
كاتب قدير
تاريخ التسجيل: Jul 2005
المشاركات: 63,279
 



بسم الله الرحمن الرحيم


سعيد بن المسيب فقيه الفقهاء وسيد التابعين سعيد بن المسيب القرشي المخزومي ..
ولد لسنتين من خلافة عمرة رضي الله عنه، وقد روي عن عدد من الصحابة وبعض أمهات المؤمنين وكان أعلم الناس بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقضاء أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى قال عن نفسه: "ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر وعمر مني. وروي عنه كثير من كبار العلماء،
ومن أبرز من تلقى العلم عنه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، حتى قال عنه: "جالسته سبع حجج وأنا لا أظن عند أحد علما غيره".
وقد لفت تميزه في العلم والفقه نظر بعض الصحابة والتابعين حتى أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وجد رجلا سأله عن مسألة فقال له: إيت هذا فسله ـ يعني سعيدا ـ ثم أرجع إلي فأخبرني،
ففعل ذلك وأخبره، فقال ابن عمر لمن حوله لما أخبر بإجابة سعيد معبرا عن إعجابه
بعلمه: ألم أخبركم أنه أحد العلماء" وقال لأصحابه عن سعيد: "لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره"، وكان يرسل إليه يسأله عن قضايا عمر وأحكامه. وكان اشتهاره بالعلم وتقدمه فيه قد شاع على ألسنة الناس، وكان الرجل يأتي إلي المدينة المنورة فيسأل عن أفقه أهلها وأعلمهم فيوجه إلي سعيد، ومن ذلك ما روي عن ميمون بن مهران قال:
"أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها، فدفعت إلي سعيد بن المسيب".

الموضوع الأصلي : اضغط هنا    ||   المصدر :

القسم الإسلامي

 
 
قديم 21-05-2014, 06:06 PM
  المشاركه #2
كاتب قدير
تاريخ التسجيل: Jul 2005
المشاركات: 63,279
 



وقد بلغ من الثقة في علمه وفقهه أنه كان يفتي والصحابة أحياء وقد أعانه على الوصول إلي تلك المنزلة ما كان يتمتع به من حافظة واعية وتفان في تحصيل ألوان المعارف، حتى إنه كان لا ينسى من يلقاه من طلابه، فقد حدث عمران بن عبد الله الخزاعي قال: "سألني سعيد بن المسيب فانتسبت له، فقال: "لقد جلس أبوك إلي في خلافة معاوية" ويقول: "والله ما أراه مر على أذنه شيء قط إلا وعاه".



وقال عنه ابن خلكان: "كان سعيد المذكور سيد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع".



وقال عن نفسه: "كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد".



وكان فيه صلابة ورثها عن آبائه وأجداده، فقد روي عنه جده حزنا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما اسمك؟ قال: حزن .. قال: بل أنت سهل.



قال: يا رسول الله اسم سماني به أبواي، وعرفت به في الناس فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم.



قال سعيد: "فما زلنا تعرف الحزونة فينا أهل البيت".



وقد جرت عليه هذه الصلابة كثيرا من المتاعب حيث كان دائما على غير وفاق مع الولاة والحكام حاشا عمر بن عبد العزيز وكان لا يأتي أحدا من الولاة، وكان عمر بن عبد العزيز يعرف له مكانته، فكان إذا عرض له قضية يبعث إليه يسأله عن رأيه، ثم يأخذ به، وذات مرة بعث إليه التوجه إلي عمر، فلما ذهب إلي عمر اعتذر له وقال أخطأ الرسول: إنما أرسلناه يسألك في مجلسك، وكان عمر يقول: ما كان بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه وكنت أوتي بما عند سعيد بن المسيب.



وكان سعيد قد أخذ عن أبي هريرة كل ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان قد تزوج ابنة أبي هريرة رضي الله عنه.



أخلاقه وعبادته



كان سعيد رجلا وقورا له هيبة عند مجالسيه فكان يغلب عليه الجد، ولو نظرت إليه لخيل إليك أنك أمام رجل ممسك بموازين الحق والعدل بين يديه، قد تكفل بحراستها والقيام عليها، مدرك لمدى مسئولية الأمانة التي تحملها، فلا يجامل، ولا يغمض عينيه عن شيء لا يراه صحيحا، فيعلن إنكاره له، غير مبال بما يجره عليه ذلك من أذى، ومن أجل ذلك كانت علاقته بالولاة والحكام علاقة يشوبها التوتر والتربص وقد مر عليه أكثر من أربعين سنة لا يرفع الأذان إلا وهو في المسجد ينتظر الصلاة، وكان دائما في الصف الأول ولم يفته الجماعة إلا يوم أن عاقبه والي المدينة وطوف به في طرقات المدينة، وجاء إلي المسجد، وقد أنصرف الناس من الصلاة، فقال: هذه وجوه ما رأيتها منذ أربعين سنة وقد حج كما قال بضعا وعشرين حجة.



وكان سعيد له تجارة تدر عليه دخلا يكفيه ليعيش عيشة راضية، ولهذا لم يكن يأخذ عطاء من الدولة حجرا على رأيه، وتقييدا لحريته، وكان عنده من يقوم بأمر تجارته، فلا يشغله أمرها عن عبادته وعلمه، وكان يدعو إلي اكتساب المال عن طرقه المشروعة، ليتمكن من صلة الرحم وأداء الأمانة، وصيانة الكرامة، والاستغناء عن الخلق، ومما أثر عنه في ذلك قوله: "لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس". وخير ما يصور وجهة نظره في امتلاك المال قوله: "اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه، ولا محبة للدنيا، ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم في وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه. وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار".



وقد نما ماله حتى ترك عند وفاته ثلاثة آلاف دينار، وقال والله ما تركتها إلا لأصون بها ديني وحسبي، وكان يقول: "من استغنى بالله افتقر الناس إليه".



ولهذا كان سعيد في بحبوحة من العيش، وقد وضح أثر ذلك في مظهره وملبسه، وحسن هيئته تحدثا بنعمة الله عليه، وكان بمسلكه ذلك يعطي المثل العملي للعالم في نزاهته ونظافته، وحسن هندامه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أجمل الخلق منظرا، وأعجبهم مظهرا، وأنظفهم ثوبا، وكان يمشط شعره، ويدهن الطيب حتى تشم رائحته العطرة من بعيد وإذا مس أحد يده يبقى أثر الطيب عالقا بها مدة طويلة، وكل تعاليمه صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته يعلم الناس أن يحرصوا على بهاء المنظر وجمال الصورة وطيب الرائحة وحسن السمت. ولهذا من فقه الرجل أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن الكريم يقول:



{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } (الأحزاب ،الآية:21) وسعيد رحمه الله كان حريصا على أن يقفو خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم الناس سنته وهديه.



موقف سعيد من أحداث عصره



كان الأمويوين والزبيريون يتنازعون على الحكم في أيام سعيد، وكانت المدينة أحيانا تكون تحت حكم الأمويين وأحيانا تحت حكم الزبيريين، وكان الوالي يحاول أن ينفذ سياسة الجهة التي ينتمي إليها، وكان مقر حكم الزبيريين بمكة ومقر حكم الأمويين بدمشق، ولم يكن سعيد راضيا عن هؤلاء ولا أولاء.



وحدث أن كان والي المدينة في فترة يدعى جابر بن الأسود ابن عوف الزهري من طرف الزبيريين، ودعا الناس إلي البيعة لعبد الله بن الزبير، وكان سعيد يرى أن الأمور غير مستقرة وليس من الحكمة المبايعة في ذلك الظرف غير المناسب، ولذلك لما دعاء الوالي إلي البيعة قال: "لا .. حتى يجتمع الناس"، فكبر على الوالي موقف سعيد وضربه ستين سوطا، ولما بلغ ما صنع ابن الزبير لم يرض بما صنعه واليه وكتب إليه يلومه على ما صنعه مع سعيد".



ويبدو أن الوالي كان قد نقم على سعيد أنه عاب عليه أن يتزوج، قبل أن تنتهي عدة الزوجة الرابعة التي طلقها، ويرى سعيد أنها ما دامت في العدة فهي في حكم الزوجة، ولا يرى صحة الزواج إلا بعد انتهاء العدة وقد أدرك سعيد أن الوالي يريد أن يعاقبه على إعلانه عدم صحة زواجه، ولذلك لما كانت السياط تنهال على سعيد صاح معلنا عن رأيه قائلا: والله ما ربعت على كتاب الله، وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلا ليال فاصنع ما بدالك، فسوف يأتيك ما تكره، ولم يمكث إلا قليلا حتى قتل ابن الزبير.



وليس معنى امتناع سعيد عن البيعة لابن الزبير أنه كان يوالي الأمويين، بل كان يواجه الخطأ مهما كان مصدره، فكان إذا رأى أمرا غير سديد رفضه وأعلن عن عدم قبوله وامتنع عن الاستجابة له مهما كلفه ذلك من أمر.



وكان الوضع السياسي قد تغير في المدينة بعد أن قتل ابن الزبير، وخلص الأمر للأمويين، وكان هناك وال أموي هو هشام ابن إسماعيل المخزومي، وفي عام 84 هـ توفى عبد العزيز بن مروان وكان مبايعا له بولاية العهد بعد عبد الملك، فلما مات عقد عبد الملك بولاية العهد لابنيه الوليد وسليمان، ودعا إلي أخذ البيعة لهما، وأخذ والي المدينة البيعة إلا أن سعيدا أبى أن يبايع محتجا بأنه لا يجوز أن تكون بيعتان معا، فكتب الوالي إلي الملك يخبره باستجابة أهل المدينة إلي المبايعة وامتناع سعيد، فكتب عبد الملك إلي واليه هشام أن يعرضه على السيف، فإن لم يتراجع طلب إليه أن يجلده خمسين جلدة، وأن لا يفعل ذلك بسعيد، فأطلع بعض زملاء سعيد من الفقهاء على خطاب عبد الملك، لعلهم يحاولون إقناعه بأن يستجيب للبيعة، ولا يتعرض لهذا الموقف الذي لا يحب أن ينسب إليه، وهو لا يستطيع أن يتغاضى لهذا الموقف ما جاء في رسالة عبد الملك خشية منه، وإن كانت بعض الروايات تقول إنه كان قد بدأ بإيقاع العقاب بسعيد لما امتنع عن البيعة، وأن عبد الملك بعث إليه يلومه على فعله بسعيد، ولكننا نميل إلي الأخذ بالرواية التي تقول إن عبد الملك هو الذي أمر بإيقاع العذاب بسعيد حتى لا يشجع التهاون معه غيره على الامتناع عن المبايعة، وقد يضاف إلي ذلك أن عبد الملك كان في نفسه شيء من سعيد لأنه رفض أن يزوج ابنته للوليد بن عبد الملك، كما سنبين ذلك فيما بعد.



فلما أطلع الوالي الفقهاء على كتاب عبد الملك في شأن سعيد توجه عروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار إلي منزل سعيد، وقالوا: إنا قد جئناك في أمر: قد قدم كتاب فيك من عبد الملك بن مروان إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالا ثلاثا، فأعطنا إحداهن، فإن الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب، فلا تقل لا ولا نعم.



قال: يقول الناس بايع سعيد بن المسيب ما أنا بفاعل، وكان إذا قال لا لم يطيقوا عليه أن يقول نعم.



قال: مضت واحدة، وبقيت اثنتان.



قالوا: فتجلس في بيتك، فلا تخرج إلي الصلاة أياما، فإنه يقبل منك، إذا طلبت في مجلسك فلم يجدك.



قال: وأنا اسمع الأذان فوق أذني: حي على الصلاة حي على الفلاح، ما أنا بفاعل.



قالوا: مضت اثنتان، وبقيت واحدة، واقترحوا عليه أن ينتقل من مجلسه إلي غيره، فإذا أرسل الوالي إليه فلم يجده أمسك عنه.



قال: فرقا "خوفا" لمخلوق، ما أنا بمتقدم لذلك شبرا، ولا متأخر شبرا.



فخرجوا عنه وخرج إلي الصلاة، صلاة الظهر، فجلس في مجلسه الذي كان يجلس فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه فأتى به.



فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك.



قال سعيد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين.



فلما رآه لا يجيب أخرج إلي السدة، فمدت عنقه وسلت عليه السيوف، فلما رآه قد مضى "ولم يتراجع" أمر به. فجرد من ثيابه فإذا عليه تبان شعر "كساء يلبس ليستر العورة".



وكان بعض غلمان الوالي قد أخبروه أنه سيقتل فارتدى ذلك الكساء حتى لا تنكشف عورته إذا قتل.



فقال: لولا ظننت أنه القتل ما لبسته، وأمر الوالي فضرب خمسين سوطا، ثم أمر أن يطاف به في أسواق المدينة، فلما رده، والناس منصرفون من صلاة العصر قال: إن هذه الوجوه ما نظرت إليها منذ أربعين سنة.



وذلك لأنه تعود أن يكون في المسجد قبل الأذان ينتظر الصلاة، وكان مكانه دائما في الصف الأول.



ويبدو أن المحاولة قد تكررت مع سعيد قام بها آخرون من أصحابه وأقرانه، ولكنه كان يصر دائما على عدم الاستجابة، والذي يدرس حياة سعيد بن المسيب يعرف أن الرجل كان إذا قال لا، لا يمكن أن يثنيه عن قوله أحد ولذلك كانت علاقته سيئة ببني مروان، وكان يعرف عنه عدم رضاه عنهم، لأنهم لم يلتزموا التزاما كاملا بما يدعو إليه الإسلام في نظام الحكم القائم على مبدأ الشورى.







قديم 21-05-2014, 06:09 PM
  المشاركه #3
كاتب قدير
تاريخ التسجيل: Jul 2005
المشاركات: 63,279
 



السجن والمقاطعة



بعد أن عوقب سعيد بالجلد والتشهير به في طرقات المدينة، زج به إلي السجن، وقضي به فترة لم تنقطع فيها محاولة الوالي أن ينتزع منه الموافقة على البيعة للوليد ولسليمان أملا في أن يستجيب ويخلي سبيله، وكان يستعين على الوصول إلي ما يريد بكل من له صلة قرابة بهما أو مودة: فقد توجه إلي السجن أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء السبعة وتكلم معه في موقفه من الوالي، وموقف الوالي منه، ولام سعيدا على ما أظهره من عدم المبالاة بالوالي على الرغم من مداراته له ويبد أن الحوار بينهما قد اشتد حتى ضاق به سعيد، كما يتبين من المحاورة التالية:



قال له أبو بكر: إنك خرقت به "يعني استهزأت به".



قال سعيد: يا أبا بكر، اتق الله وأثره على ما سواه، وأخذ أبو بكر يردد اتهامه لسعيد قائلا: إنك خرقت به ولم ترفق حتى ضاق به سعيد، وعاودته حدته فقال له، إنك والله أعمى البصر وأعمى القلب.



ولما خرج أبو بكر من عند سعيد بعث إليه هشام يسأله إذا كان سعيد قد لأن.



فقال أبو بكر: والله ما كان أشد لسانا منذ فعلت به ما فعلت، فاكفف عن الرجل.



ومن دراسة ما روي حول الفترة التي قضاها سعيد في السجن يمكن أن نتعرف على بعض الحقوق التي كانت تقدم للسجناء في ذلك العهد المتقدم، فلم يكن هناك حظر على أهل السجين أن يقدموا إليه من الطعام والملابس والفراش ما يريدون بدون أن يتدخل الحكام في ذلك، ونحن نعرف من صحبتنا لحياة سعيد في الصفحات السابقة أنه كان في بحبوحة من العيش جاءه ما أعدت ابنته دعا برجل يسمى أسلم بن أمية، وقال له أذهب إلي ابنتي، فقل: لا تعودي لمثل هذا أبدا، فهذه حاجة هشام ابن إسماعيل، يريد أن يذهب مالي، فأحتاج إلي ما في أيديهم، وأنا لا أدري ما أحبس، فانظري إلي القوت الذي كنت أكل في بيتي فابعثي به إلي.



وقدم هذه النصيحة إلي رجل آخر كان معه في السجن، وكان أهله يبعثون إليه بألوان الطعام، فنصحه سعيد قائلا:



أتريد أن تجلس هاهنا، كف عنك هذا.



ونستطيع أن ندرك مما سبق مدى الحرية التي كان يتمتع بها السجناء، مما يرجو نزلاء السجون في أيامنا هذه أن يتمتعوا بمثله وكان يسمح لهم بالزوار بدون حرج، فقد حدث عبد الله بن يزيد الهذلي قال: دخلت على سعيد بن المسيب السجن، فإذا هو قد ذبحت له شاة، فجل الإهاب على ظهره، ثم جعلوا له بعد ذلك قبضا رطبا" وكان كلما نظر إلي عضديه، قال: اللهم انصرني من هشام.



وبعد أن خرج من السجن لم يترك وشأنه بل حرم عليه الجلوس إلي أحد، وحيل بين الناس وبين الجلوس إليه بما نسميه في عرفنا المعاصر بالمقاطعة الاجتماعية (العزل).



ولكنه كان يذهب إلي مجلسه كعادته، ولم يكن يجرؤ أحد على مجالسته، فقد دخل مسجد المدينة رجل يسمى يونس القزي، فوجد سعيدا يجلس وحده، فتساءل ما شأنه، فأخبر أنه نهى أن يجالسه أحد وكان سعيد لا يحب أن يؤذي أحد بسببه، فكان إذا جلس إليه شخص أخبره أن الوالي منع الناس من مجالسته، وأنه يخشى أن يناله أذى بسبب هذه المجالسة، كان يقول ذلك لمن لا يعرف الحظر إبراءً لذمته.



اعتزازه بنفسه:



كان سعيد لا يذهب للقاء أحد من خلفاء بني مروان ولا يستجيب لهم إذا دعوه. فقد حدث ذات يوم أن كان عبد الملك بن مروان بالمدينة وأراد أن يستريح في وقت الظهيرة، ولكن النوم استعصى عليه، فطلب إلي حاجبه أن يستدعي له أحدا ممن في المسجد يتحدث إليه، وخرج الرجل إلي المسجد، فوجد سعيدا في حلقته، فوقف بحيث يراه سعيد، ثم أشار إليه بإصبعه يستدعيه، ليذهب معه، وانطلق الحاجب ظانا أن سعيدا سيتبعه، ولكنه لم يتحرك من مكانه.



فقال الحاجب "لا أراه فطن، ثم عاد إليه ودنا منه، ثم غمزه وقال: ألم ترني أشرت إليك؟



قال سعيد: وما حاجتك؟



قال: أجب أمير المؤمنين.



فقال: إلي أرسلك؟



قال: لا، ولكن قال: انظر بعض حداثنا، فلم أر أحدا أهيأ منك.



قال: أذهب فأعلمه، أني لست من حداثه.



فخرج الحاجب، وهو يقول، ما أرى هذا الشيخ إلا مجنونا، وذهب فأخبر عبد الملك.



فقال عبد الملك: ذاك سعيد بن المسيب، فدعه.



ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي رفض فيها سعيد لقاء عبد الملك، فقد قدم المدينة بعد أدائه فريضة الحج، ووقف على باب المسجد، وأرسل إلي سعيد بن المسيب رجلا يدعوه إليه، وطلب إليه ألا يحركه فأتاه الرسول، وقال: أجب أمير المؤمنين واقفا بالباب، يريد أن يكلمك.



فقال سعيد: ما لأمير المؤمنين إلي حاجة، ومالي إليه حاجة وإن حاجته لي غير مقضية.



فرجع الرسول إلي عبد الملك وأخبره بما سمع، فقال أرجع، فقل له: إنما أريد أن أكلمك. ولا تحركه فرجع إليه فقال: أجب أمير المؤمنين فرد عليه مثلما رد عليه المرة الأولى.



واشتد الغيظ بالرسول فقال: لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا.



فقال سعيد: إن كان يريد أن يصنع بي خيرا فهو لك، وإن كان يريد غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض. فعاد الرجل إلي عبد الملك فأخبره، فقال: رحم الله أبا محمد أبي إلا صلابة.



وقد تكرر نفس الموقف مع الوليد بن عبد الملك لما آلت إليه الخلافة. فقد وصل إلي المدينة، ودخل المسجد فرأى شيخا قد اجتمع عليه الناس.



فقال: من هذا؟



قالوا: سعيد بن المسيب.



فلما جلس أرسل إليه، فأتاه الرسول.



فقال: أجب أمير المؤمنين.



فقال سعيد: لعلك أخطأ باسمي، أو لعله أرسلك إلي غيري فرد الرسول، فأخبره، فغضب وهم به.



فتدخل الناس، وقالوا: يا أمير المؤمنين. فقيه المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيك، لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه، ومازالوا به حتى هذا غضبه، وتركه وشأنه.



أسرة سعيد



كان سعيد قد تزوج ابنة أبي هريرة، وكانت قد أخذت عن أبيها كثيرا مما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن نتصور منزلا وأسرة ربتها ابنة أبي هريرة وربها سعيد بن المسيب كيف تمضي الحياة فيه، وكيف ينشأ أبناء هذا البيت، إن التاريخ يحدثنا أن سعيد كان له ابن يسمى محمدا ولذلك كانوا ينادونه بـ"أبو محمد" وأن محمد هذا كان مرجعا في علم الأنساب حتى أن سعيدا كان إذا جاءه من يسأل عن الأنساب أحاله إلي ابنه محمد وكان له ابنة حاول عبد الملك كما سبق أن أشرنا أن يزوجها لابنه الوليد، ولكن سعيدا لم يوافق على هذا الزواج لاعتبارات كثيرة في مقدمتها عدم رضاه عن سياسة بني مروان وسعيد هذا الذي يرفض أن يزوج ابنته إلي الوليد بن عبد الملك ولي العهد والخليفة فيما بعد يعرض ابنته هذه على طالب فقير من طلابه لا يملك أكثر من ثلاثة دراهم في قصة مثيرة، ولعلنا نتساءل قبل أن نعرض الصورة التي تم بها الزواج عن مدى ما كانت تتمتع به ابنة سعيد من العلم والجمال، أما العلم فكانت قد أخذت علم أبيها حتى إنها في شهر العسل من زواجها أغنت زوجها عن التردد على حلقة أبيها، وأنها كانت على جانب كبير من الجمال أما قصة الزواج فيرويها كثير ابن أبي وداعة تلميذ سعيد فيقول: كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أياما، فلما جئته قال: أين كنت؟



قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها.



فقال: ألا أخبرتنا. فشهدناها؟ ثم قال: هل استحدثت امرأة؟



فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني، وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟



قال: أنا.



فقلت: وتفعل؟!



قال: نعم، ثم تحمد وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو ثلاثة.



فقمت، وما أدري ما أصنع من الفرح فصرت إلي منزلي وجعلت أفكر فيمن أستدين، فصليت المغرب، ورجعت إلي منزلي وكنت وحدي صائما، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزا وزيتا، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد.



ففكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت، فإذا سعيد فظننت أنه قد بدأ له "يعني غير رأيه". فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك؟



قال: لا، أنت أحق أن تؤتي، إنك كنت رجلا عزبا، فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها. فدفعها في الباب، ثم رد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لا تراها، ثم صعدت إلي السطح فرميت الجيران، فجاءوني، فقالوا: ما شأنك؟!



فأخبرتهم، ونزلوا إليها، وبلغ أمي، فجاءت، وقلت: وجهك من وجهي حرام. إن مسستها قبل أن أصلحها إلي ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثا، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق زوج فمكثت شهرا لا آتي سعيد بن المسيب، ثم أتيته، وهو في حلقته، فسلمت، فرد علي السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس. فلما لم يبق غيري. قال: ما حال ذلك الإنسان؟



قلت: خيرا يا أبا محمد، على ما يحب الصديق، ويكره العدو.



قال: إن رابك شيء فالعصا.



فانصرفت إلي منزلي، فوجه إلي بعشرين ألف درهم!



تفصيلات أخرى تكشف عن بعض العادات الاجتماعية في ذلك العصر الذي سجلناه عن أحداث هذا الزواج هو ما جاء في كتاب الحلية لأبي نعيم الأصفهاني، وسير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي ولكن هناك تفصيلات أخرى تكشف عن جوانب ذات مغزى في الحياة الاجتماعية في ذلك العصر جاء بها صاحب كتاب فقه الإمام سعيد بن المسيب، خلاصتها: أن ابن أبي حرملة، لما عرف أن الطارق سعيد بن المسيب قد استولى عليه الخوف وارتعدت فرائصه، وقال: لعل الشيخ ندم فجاء يستقيلني "يستعفيني" يقول: فخرجت إليه أجر رجلي، وفتحت الباب، فإذا أنا بشابة متلفعة بساج "الطيلسان الأخضر" ودواب عليها متاع وخادمة بيضاء، فسلم علي، ثم قال: يا عبد الله هذه زوجتك.



فقلت مستحييا منه: يرحمك الله، كنت أحب أن يتأخر ذلك أياما.



فقال لي: لم؟ ألست أخبرتني أن عندك أربعة دراهم؟



قلت: هو كما ذكرت لك. ولكن كنت أحب أن يتأخر ذلك.



قال: إنها إذن عليك لغير ميمونة، وما كان الله يسألني عن عزبتك الليلة، وعندي لك أهل.



هذه زوجتك، وهذا متاعكم، وهذه خادمة تخدمكم، معها ألف درهم نفقة لكم، فخذها يا عبد الله بأمانة الله، فوالله إنك لتأخذ صوامة قوامة، عارفة بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتق الله فيها، ولا يمنعك مكانها مني إن رأيت ما تكره أن تحسن أدبها. ثم سلمها إلي ومضى.



قال ابن أبي وداعة: فوالله ما رأيت امرأة قط أقرأ لكتاب الله تعالى، ولا أعرف بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أخوف لله عز وجل منها، قد كانت المسألة المعضلة تعيي الفقهاء، فأسألها عنها، فأجد عندها منها علما.
ثم قال: فأقمت عندها ما شاء الله، ثم رزقني الله منها حملا، وكان سعيد بن المسيب كثيرا ما يسألني عنها، فيقول: ما فعلت تلك الإنسانة؟ فأقول خيرا.



فيقول: يا عبد الله إن خف عليك أن تزيرناها فافعل.



وقصة هذا الزواج تكشف عن كثير من القيم الاجتماعية، التي كانت تسود المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت المبكر، وتحكم علاقات الناس، وتوجه نظرتهم إلي الحياة، فلم يكن هناك مغالاة في المهور، ولم يكن هناك إرهاق لمن يرغب في الزواج بكثرة المطالب التي تعجز عنها إمكاناته، بل كان هناك تقليد حميد يجعل الحياة سهلة على من يبني أسرة جديدة، إذا كان أهل العروس يقدمون لها ولزوجها ما يعينهما على بدء حياتهما في هدوء وسلام.



ومن تفاصيل الحوار الذي دار بين سعيد وزوج ابنته رأينا أن سعيد استأذنه في أن يسمح لها بزيارة بيت أبيها من وقت لآخر ويبدو أن سعيد كانت صلاته الاجتماعية محدودة فقد روي عنه أنه قال: ما ضمني سقف بيت بالمدينة إلا أني كنت أزور بنتا لي.



وكانت زوجة سعيد حريصة على أن يتهيأ لابنتها حياة زوجية هادئة، وكانت أيضا على جانب كبير من الإلمام بأحكام الدين والعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسبها أنها ابنة أبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجة سعيد بن المسيب، ويبدو أنها لم يرها في داره إلا أثناء وضعها ويتأكد ذلك من متابعة الحوار التالي:



قال ابن أبي وداعة: رجعت إلي الدار، وإذا بها شخص ما رأيته قط. فرجعت موليا.



فنادتني من ورائي: يا عبد الله، أدخل فقد أحل الله لك هذه النظرة.



فقلت: ومن أنت يرحمك الله؟



قالت: أنا أم الفتاة يا عبد الله كيف رأيت أهلك؟



قلت: جزاكم الله عن أهل بيتي خيرا، لقد ربيتم فأحسنتم وأدبتم فأحكمتم.



فقالت: يا عبد الله، لا يمنعك مكانها منا أن ترى بعض ما تركه، فتحسن أدبها، يا عبد الله، لا تملكها من أمرها ما جاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة، وليست قهرمانة، ولا تكثر التبسم في وجهها فتستخف بك، بارك الله لكما في المولود، وجعله مباركا خائفا الله، ووقاه فتنة الشيطان. وجعله شبيها بجده سعيد، فوالله إني لزوجته منذ أربعين سنة. ما رأيته عصى الله تعالى معصية، ثم خرجت، فلم أر لها وجها ثماني عشرة سنة حتى قضي عليها الموت.




قديم 21-05-2014, 06:24 PM
  المشاركه #4
كاتب قدير
تاريخ التسجيل: Jul 2005
المشاركات: 63,279
 



الله واسع المغفره فجدد التوبة دائما ولا تيأس من رحمة الله و عفوه







قديم 21-05-2014, 06:39 PM
  المشاركه #5
كاتب قدير
تاريخ التسجيل: Jul 2005
المشاركات: 63,279
 



الاستغفار دون الإقلاع عن المعاصي - الشيخ بن باز









قديم 21-05-2014, 08:31 PM
  المشاركه #6
عضو موقوف
تاريخ التسجيل: Jun 2008
المشاركات: 10,063
 



بارك الله فيك يابوبياان



قديم 22-05-2014, 02:44 AM
  المشاركه #7
ابو ماجد
كاتب قدير
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 78,512
 



جزاك الله كل خير



قديم 22-05-2014, 11:03 AM
  المشاركه #8
كاتب قدير
تاريخ التسجيل: Feb 2007
المشاركات: 159,313
 



بارك الله لك



قديم 18-08-2014, 04:20 AM
  المشاركه #9
ابو ياسر
رئيس فريق المراقبة
تاريخ التسجيل: Apr 2005
المشاركات: 43,260
 



جزاك الله خير الجزاء ورحم الله والديك



كلام جميل للصحابي معاذ بن جبل رضي الله عن كيفية النجاة من الفتن يقول فيه

(( ليتني أعرف أقواما من اهل ذلك الزمان (( يقصد آخر الزمان ووقت الفتن )) لأخبرهم كيف ينجون من الفتن وعندما سئل عن ذلك أجاب ببساطة
إن ما أنت عليه هو الصواب والقادم عليك فتنة فتمسك بما انت عليه وأترك القادم إليك وتجنبه فهو الفتنة

هذا مجمل كلامه رضي الله عنه وفيه النجاة بعد الله من الفتن ))




أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



11:54 AM