logo



أدوات الموضوع
قديم 04-04-2021, 09:24 PM
  المشاركه #1
كاتب مميز
تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 27,993
 



موضوع متجدد نضع فيه .. محاضرات وخطب
ومواعظ مفرغة ومكتوبة ،،



..................................................



ما هي السعادة – الشيخ / عائض القرني

أيها المسلمون:
يبحث كل إنسان بكل ما أوتي من قوة عن السعادة، فما هي السعادة؟ وأين توجد؟
هل السعادة مال وفير وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث؟
هل السعادة منصب يرفع العبد على الناس، فيصبحون له خدماً وخولاً؟
هل السعادة صحة الجسم، فلا يمرض، ولا يجوع، ولا يبأس؟
هل السعادة السلامة من الناس، والنجاة من غوائلهم ودواهيهم؟

لقد طلب السعادة أقوام من طرق منحرفة، فكانت هذه الطرق، سبباً لدمارهم وهلاكهم، وللعنة الله التي وقعت عليهم.
طلبها فرعون وتلاميذه في الملك، ولكنه ملك بلا إيمان، وتسلطن بلا طاعة، فتشدق في الجماهير: (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) [الزخرف:51].
ونسي أن الذي ملكه هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس هو الله، والذي أطعمه وسقاه هو الله، ومع ذلك يجحد هذا المبدأ ويقول: (ما علمتُ لكم من إله غيري) [القصص:38].
فكان جزاء هذا العتو والتكبر والتمرد على الله؛ إنه لم يتحصل على السعادة التي طلبها، بل كان نصيبه الشقاء والهلاك واللعنة بعينها (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) [النازعات:25].
ويقول الله عنه وعن مثله: (النار يُعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافر:46].
ويمنح الله قارون كنوزاً كالتلال ما جمعها بجهده، ولا بذكائه، ولا بعرقه، ولا بعبقريته، وظن أنه هو السعيد وحده، وكفر نعمة الله، وقد حذره ربه، وأنذره مولاه مغبة تصرفاته الوقحة، فأبى وأصر على تجريد المال من الشكر، والسعي في الأرض فساداً، فكان الجزاء المر (فخسفنا به وبداره الأرض) [القصص1].
وطلب السعادة الوليد بن المغيرة، فآتاه الله عشرة من الأبناء، كان يحضر بهم المحافل، خمسة عن يمينه، وخمسة عن يساره، ونسي أن الله خلفه فرداً بلا ولد (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا) [المدثر -16].
فماذا فعل، كيف تصرف؟ أخذ عطاء الله من الأبناء، فجعلهم جنوداً يحاربون الله، إلا من رحم ربك، فقال الله فيه: (سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر) [المدثر:26-30].
وهذا يلتمس السعادة في الشهرة فيقضي ساعاته في توجيه الناس إليه، ليصبح معبود الجماهير، وحديث الركبان، وشاغل الدنيا، فيقتلعه ربك من جذوره، ويمحق سعيه (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) [الرعد:17].
وذاك يظن أن السعادة في الفن، الفن المتهتك الخليع الماجن، فيدغدغ الغرائز، ويلعب بالمشاعر، ويفتن القلوب، ويسكب الغرام في النفوس، فيحمّله الله ذنوب من أغواهم، دون أن ينقص من ذنوبهم شيئاً، ويحجب الله السعادة عن كل من لم يعترف بألوهيته، ويدين بربوبيته، فيقول: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) [طه 4-126].
فأين السعادة؟ أين توجد لمن يبحث عنها؟ أين مكانها؟ من الذي أتى بالسعادة وأدخلها القلوب؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
السعادة الإيمان والعمل الصالح، وجدها يونس بن متى، وهو في ظلمات ثلاث: في بطن الحوت، في ظلمة اليم، في ظلمة الليل، حين انقطعت به الحبال، إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب، إلا سبب الله، فهتف من بطن الحوت، بلسان ضارع حزين: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين) [الأنبياء7]. فوجد السعادة.
ووجدها موسى عليه السلام، وهو بين ركام الأمواج في البحر، وهو يستعذب العذاب في سبيل الواحد الأحد: (كلا إن معي ربي سيهدين) [الشعراء:62].
ووجدها محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يطوّق في الغار بسيوف الكفر، ويرى الموت رأي العين، ثم يلتفت إلى أبي بكر ويقول مطمئناً: (لا تحزن إن الله معنا) [التوبة:40].
سهدت أعينٌ ونامت عيـون في شئون تكون أو لا تكون
فاطرح الهـم مـا استطعت فحمـلانك الهمـوم جنـون
إن ربا كفاك ما كان بالأمس سيكفيـك فـي غدٍ ما يكون
ووجد السعادة يوسف عليه السلام، وهو يسجن سبع سنوات فيسألونه عن تفسير الرؤى، فيتركها، ثم يبدأ بالدعوة فيقول: (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار) [يوسف:39]. فيعلن الوحدانية، فيجد السعادة.
ووجدها أحمد بن حنبل في الزنزانة، وهو يجلد جلداً، لو جلده الجمل لمات، كما قال جلاده، ومع ذلك يصر على مبدأ أهل السنة والجماعة، فيجد السعادة.
أما الذي جلده، وهو المعتصم، فلما حضرته سكرات الموت، رفع بساطه، ومرغ وجهه في التراب، وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه. ثم يقول: لو علمت أني أموت شاباً، ما فعلت الذي فعلت من الذنوب.
ووجدها ابن تيمية، وهو يكبّل بالحديد، ويغلق عليه السجان الباب، داخل غرفة ضيقة مظلمة، فيقول ابن تيمية: (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) [الحديد:13].
ويلتفت ابن تيمية إلى الذين هم خارج السجن، فيرسل لهم رسالة، وينشد لهم نشيداً، وينقل لهم نبأ وخبراً من السجن فيقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن سرت فهي معي. . أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة!!.
ووجدها إبراهيم بن أدهم، وهو ينام في طرف السكك في بغداد، لا يجد كسرة الخبز ويقول: والذي لا إله إلا هو، إنا في عيش، لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسيوف!.
هذه هي السعادة، وهذه أحوال السعداء، ولا يكون ذلك إلا في الإيمان والعمل الصالح، الذي بعث به الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن سكن القصر بلا إيمان، كتب الله عليه: (فإن له معيشة ضنكاً) [طه 4]. ومن جمع المال بلا إيمان، ختم الله على قلبه: فإن له معيشة ضنكا . ومن جمع الدنيا، وتقلد المنصب بلا إيمان، جعل الله خاتمته فإن له معيشة ضنكا .
فيا طلاب السعادة، ويا عشاق السعادة، ويا أيها الباحثون عن الخلود في الآخرة، في جنات ونهر، لا يكون ذلك إلا من طريق محمد عليه الصلاة والسلام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.





...

الموضوع الأصلي : اضغط هنا    ||   المصدر :

ساحات الهوامير المفتوحة

 
 
قديم 04-04-2021, 09:32 PM
  المشاركه #2
عضو موقوف
تاريخ التسجيل: Jun 2019
المشاركات: 2,990
 



وش جرى اليوم واحد منزل موضوع عن محمد العريفي والثاني عن عائض القرني


مافي ناس جدد ما نبغي قداما نبغى جدد التجديد مطلوب طال عمرك



اتوقع ماحد بيزورك في هذا الموضوع الا انا


حبيت اسلم عليك وارفعلك الموضوع لعل وعسى






قديم 04-04-2021, 09:38 PM
  المشاركه #3
كاتب مميز
تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 27,993
 



الحقيقة ... لفضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتنا إلا وأنتم مسلمون).
أما بعد:
عباد الله،
عقلك عقلكَ، وسمعك وقلبك، أعرنيهما وأرعنيهما لحظات قد تطول راجيا أن يتسع صدرك احتسابا لما أقول، ثم حلق معي بخيالكَ متخيلا ما هو واقعُ، ومتصورا ما هو حقيقةٌ على الحقيقةِ.
تخيل وليداً عمرُه شهرٌ واحد، قضى اللهُ أن لا يعيشَ سوى هذا الشهرَ فقبضَهُ ديانُ يومُ الدين، وقبرَ مع المقبورين، وبينما هم في قبورِهم:
إذ نفخَ في الصور، وبُعثرَتِ القبور، وخرج المقبور، وكان في من خرجَ ذلكم الصبيُ ذو الشهرِ الواحد، حافياً عاريا أبهمَ، نظر فإذا الناسُ حفاةٌ عراةٌ رجالاً والنساء كالفراشِ المبثوث.
الجبالُ كالعهنِ المنفوش، السماءُ انفطرت ومارت وانشقت وفتحت وكشطت وطويت.
والجبالُ سيرت ونسفت ودكت، والأرضُ زلزلة ومدت وألقت ما فيها وتخلت.
العشار عطلت، الوحوشُ حشرت، البحارُ فجرت وسجرت.
الأمم على الرُكبِ جثت وإلى كتابها دُعيت، الكواكبُ انتثرت، النجومُ انكدرت.
الشمسُ كورت ومن رؤوسِ الخلائقِ أدنيت.
الأممُ ازدحمت وتدافعت، الأقدامُ اختلفت، الأجوافُ احترقت، الأعناقُ من العطشِ وحر الشمسِ ووهجِ أنفاسِ الخلائقِ انقطعت، فاض العرق فبلغ الحقوين والكعبين وشحمة الأذنين.
والناسُ بين مستظلِ بظلِ العرش، ومصهورٍ في حر الشمسِ.
الصحفُ نشرت، والموازينُ نصبت، والكتبُ تطايرت، صحيفةُ كلٍ في يده مُخبرةٌ بعمله، لا تغادرُ بليةً كتمها، ولا مخبأة أسرها.
اللسان كليلُ والقلبُ حسيرُ كسير، الجوارحُ اضطربت، الألوانُ تغيرت لما رأت، الفرائصُ ارتعدت، القلوبُ بالنداءِ قُرعت، والموءودةُ سألت، والجحيمُ سعرت، والجنةُ أزلفت.
عظمَ الأمر، وأشتدَ الهول، والمُرضعةُ عما أرضعت ذُهلت، وكلُ ذاتِ حملٍ حملها أوقعت.
زاغتِ الأبصارُ وشخصت، والقلوبُ الحناجرَ بلغت، وانقطعت علائقُ الأنسابِ.
وتراكمت سحائبُ الأهوالِ، وأنعجم البليغُ بالمقالِ وعنتِ الوجوهُ للقيوم.
واقتُصَ من ذي الظلمِ للمظلومِ وساوتَ الملوكُ للأجنادِ، وأُحضرَ الكتابُ والأشهادِ.
وشهدَ الأعضاءُ والجوارح، وبدت السوءاتُ والفضائح، وابتليت هنالك السرائرُ، وانكشفَ المخفيُ في الضمائر.
هنا، تخيل ذلك الوليدُ صاحبَ الشهرِ الواحد، ما اقترفَ ذنباً وما ارتكبَ جُرما والأهوالُ محدقةٌ به من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، تخيلهُ مذعوراً قلبُه، اشتعل رأسُه شيبا في الحال لهولِ ما يرى، فيا لله لذلك الموقف.
يوم عبوس قنطرير شره……. وتشيب منه مفارق الولدان
هذا بلا ذنبُ يخاف مصيره…… كيف المصرُ على الذنوبِ دهورُ
قال اللهُ عز وجل ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)المزمل.17
عباد الله:
في خضمِ هذه الأهوالِ التي تبيضُ منها مفارقُ الولدانِ، ما النجاة وما المخرج؟
إن النجاةَ والمخرجَ في أمرٍ لا غير، لا يصلحُ قلبٌ، ولا تستقيمُ نفسٌ ولا تسعدُ إلا به، خوطبَ به الخلقُ أجمعين، خصَ به المؤمنون، أُوصيَ به الأنبياءُ والمرسلون، وخاتَمَهم سيدُ ولد أدم أجمعين عليه وعليهم صلوات وسلام رب العالمين. أي أمرٍ هذا أيها المؤمنون؟
إنه وصية الله للأولين والأخرين:
( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)النساء.131.
تقوى اللهِ وكفى، قال جل وعلا :
(وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) الزمر 61.
ويقول ( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)71-72- مريم.
أيُ تقوىً تُنجي بين يدي الله؟
أهي كلمةٌ تنتقى وتدبج في مقال؟
أم هي شعارٌ يرفعُ بلا رصيدٍ من واقع؟
كلا ما كلُ منتسبٍ للقولِ قوالُ:
ولو أن أسباب العفاف بلا تقى……..… نفعت لقد نفعت إذا إبليسُ
فهو القائل (إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)الحشر.16.
لا ينجي واللهِ في تلك الأهوالِ إلا حقيقةٌ التقوى، لبُها كنهها ماهيتها مضمونُها.
فما حقيقةُ تلك الكلمة يا عباد الله؟
إنها هيمنةُ استشعارِ رقابةِ اللهِ على حياتِك أيها الفرد حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك وتلك أعلى مراتب الإيمان وهي مرتبة الإحسان،
وتلك أعلاها لدى الرحمن
وهي رسوخ القلب في العرفان
حتى يكون الغيب كالعيان
بل هي هيمنةُ الدينِ على الحياة كلها عقيدةً وشريعة، عبادةً ومعاملةً، خُلقا ونظاماً، رابطةً وأخوة.
هيمنَةً كما أرادها الله تجعلُ الحياةَ خاضعة في عقيدة المسلم وتصوره لله، لا يند منها شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة.
هيمنةُ تُسلم النفسَ كلَها لله، حتى تكونا أفكارَ ومشاعرَ وأحاسيسَ وسلوكاً، محكومةً بوحي الله فلا تخضع لغير سلطانه، ولا تحكم بغير قرأنه، ولا تتبعُ غير رسولِه، لا يحركُها إلا دينُ الله، تأتمرُ بأمر الله وتنتهي عن نهيه، متجردةً من ذاتها متعلقةً بربها وحالُ صاحبِها:
خضعت نفسيَ للباري فسدوا الكائنات……… أنا عبدُ الله لا عبدُ الهوى والشهوات
فهِم هذا أصحابُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فصاغوه واقعاً حياً نابضا، انفعلت بهِ نفوسُهم فترجموه في واقعِ سلوكُهم، صِرتَ ترى شرع الله يدبُ على الأرضِ في صورةِ أناسٍ يأكلون الطعام ويمشونَ في الأسواق.
إذا ما دعو للهدى هرولوا…..…..وإن تدعهم للهوى قرفصوا
روى الإمام البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال:
(كنتُ ساقي القوم في بيتِ أبي طلحة (يعني الخمر) وإني لقائمُ أسقي فلاناً وفلاناً وفلانا، إذ جاء رجلُ فقال هل بلغَكم الخبر، قالوا وما ذاك؟
قال لقد حُرمتِ الخمر، وقد أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي آلا إن الخمرَ قد حُرمت، فقالوا أهرق هذه القلال يا انس.
فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبرِ الرجل، وما دخلَ داخلٌ ولا خرجَ خارج حتى اهراقوا الشراب وكسرتِ القلال، ثم توضئ بعضهم واغتسل بعضهم ثم أصابوا من طيب أم سليم ثم خرجوا إلى المسجدِ يخوضونَ في الخمر قد جرت بها سكِك المدينة، فقد تواطئتُ المدينة كلُها على تحريمه
فلما قرأت عليهم الآية:
( فهل أنتم منتهون )؟المائدة.91
بعض القوم كانت شربته في يده فلم يرفعها لفيه بل أراق ما في كأسه وصب ما في باقيته وقال انتهينا ربنُا انتهينا).
لم يقولوا تعودنا عليه منذ سنين و ورثناها عن آبائنا كما يفعل بعض مسلمي زماننا.
ما تكونت عصابات لتهريب المخدرات لأن الدين هيمن على حياتهم فاستشعروا رقابةَ ربِهم فبادروا في يسرٍ إلى تنفيذه امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن النبيَ صلى الله عليه وسلم، يأمر أهلَ المدينة أن لا يكلموا كعباً حين تخلف عن تبوك.
فإذا الأفواه ملجمةٌ لا تنبسُ ببنت شفةٍ، وإذا الثغور لا تفترُ حتى عن بسمة.
بل إن أبن عمه وحميمَه وصديقَه أبا قتادة، نعم لما آتاه ليسلمَ عليه كعب ما رد عليه السلام، فاستعبرت عينا كعبٍ رضي الله عنه ورجع كسير البال كاسف الحال.
فأمرُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء القوم فوق كل خُلة.
ثم انظر إليهم لما نزلت توبةُ اللهِ على هذا الرجل، على كعبٍ رضي الله عنه وأرضاه.
تتحركُ المدينةِ وتنتفضُ عن بكرةِ أبيها إلى كعب فإذا الأفواه تلهج له بالتهنئةِ وقد كانت ملجمة، وإذا الثغور تفتروا عن بسمات مضيئة صادقة وقد كانت عابسة.
نفوس لا يحركها إلا دينُ الله حالها:
ما بعت نفسي إلا لله عز وجلَ…….…..فمن تولى سواه يوله ما تولىَ
إنهم لم يقفوا عند امتثال أمره واجتناب نهيه بل تابعوا أفعال المصطفى صلى الله عليه وسلم ولاحظوا تصرفاته بكل دقة وشوق وحرص على الإقتداء حتى إذا ما فعل شيئا سارعوا إلى فعله مباشرة لأنهم يعلمون أن سنته سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها هلك.
ثبت عند أبي داوود في سننه عن سعيد الخدري قال:
(بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فألقاهما عن يساره.
فلما رأى ذلك أصحابه رضوان الله عليهم القوا نعالهم.
فلما قضى صلى الله عليه وسلم صلاته قال ما حملكم على إلقاء نعالكم؟
قالوا رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا). توحيد في الإتباع:
فمن قلد الآراء ضل عن الهدى……… ومن قلد المعصوم في الدين يهتدي
بل كان الناس إذا نزلوا منزلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره تفرقوا في الشعاب والأودية فقال لهم صلى الله عليه وسلم إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان.
فما نزلوا بعد ذلك منزلا إلا انظم بعضهم إلى بعض حتى لو وضع عليهم بساط لعمهم.
تنفيذ في يسر وطاعة وامتثال، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
هم ذلك السلف الذين لسانهم……….….تنحط عنه جميع اللسنة الورى
تلك العصابة من يحد عن سبيلها…….حقا يقال لمثله أطرف كرى
مما سمعتم أيها المؤمنون يتجلى لنا مظهرُ أفرادِ المجتمعِ المسلم في ظلِ إدراكهمُ الصحيحُ لمفهوم الإسلام، فليستِ المسألةُ عندَهم فرائضَ يفرِضها هذا الدين على الناس بلا موجبٍ إلا رغبةُ التحكمِ في العباد.
بل هيَ مسألة وجودِ الإنسانِ إذا رغبَ أن يكونَ إنسانٍ حقا، لا مجردَ كائنٍ يأكلُ الطعامَ ويشربَ الشرابَ، ويقضي أيامَه على الأرضِ كيفما أتفق، بل هيَ وضعُ للإنسانِ في وضعه الصحيح كإنسان يستشعر رقابة المولى وتلك هي حقيقةُ التقوى.
عباد الله:
هل استشعرَ رقابةَ الله؟
واتقى اللهَ حقيقةً من يشهدُ أن لا إله إلا الله، ويصبح دائبا مجداً مجتهداً في مطعمِ حرام وملبس حرام وغذاءِ حرام؟ يصبحُ وقد ضربَ هذا وشتمَ هذا وأكلَ مالَ هذا وسفك دم هذا ووقعَ في عرضِ ذاكَ وذا.
يصغّر ذا بأراجيفه….… ويرجو بذلك أن يكبرا
ولو عاش في عالم أمثل……. لكان من الحتم أن يصغرا
هل استشعرَ رقابةَ الله؟
من يجلبُ النار ليحرقَ بيتَه وأهله، من يُخربَ بيتَه بيده بوسائلَ لا تزال تُمطره بوابلٍ أو طل من أغاني وأفلامِ ماجنة وقصص سافلة، وترويض للنفوسِ على الكذبِ والنفاقِ وقلب الحقائق؟ قائماً على هدمِ بيتهِ كالدودة التي تخرج من الميت ثم لا تأكل إلا ذلك الميت؟
ألم يستشعرَ أنه لو مات َ على حالته تلك مات غاشاً لرعيته خائنا لأمانته.
حاملاً وزرَه ووزرَ ما جلبه لبيته على ظهره يوم القيامة بقدرِ ما أفسدت هذه الوسائلُ في نفوس أبنائه وأهله من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا.
واللهِ لا يعفيك من حساب الله ولا من لوم الناس ولا تأنيبَ الضمير أن تقول أنا ضحية، وما البديل وما البدل وما المبدل منه؟
وبيتك حقل لاستقبال الأفكارِ والاوضار والأقذارِ تنبتُ فيه وتترعرع، وأنت تسأل ماذا افعل؟
لا يفل الحديد إلا الحديد، والباب الذي يأتيك منه القبيح لا حيلة فيه إلا بسده لتستريح.
آلا إن الشراب له إناء …….فإن دنسته دنس الشراب
أما في هذه الدنيا آمور………….…سوى الشهوات تحرزها الطلاب
أما في هذه الدنيا أُسود…….كما في هذه الدنيا كلاب؟
هل استشعرَ رقابةَ الله؟
من يتعبدُ بأعمالٍ ليس عليها أمرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وحجته ازديادُ الخيرِ وحبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكم من مريدٍ للخير لا يصيبه.
أي فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك خصصت بفضلٍ لم يخصَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه.
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْأَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).النور.63
هل استشعرَ رقابةَ الله؟
من ليلُه سهرٌ على ما حرم الله، ويصبحُ مجاهراً بمعصيةِ ؟
من إذا وصل إلى بيئةٍ أجنبيةٍ لا يعرف أمن اليهودِ هو أم من النصارى و والذين أشركوا:
كلفظ ما له معنى……. كتمثال من الجبس
يسير لغير ما هدف….. ويصبح غير ما يمسي
حقيقة الكلمة اللجوء إلى الله:
وتعرفُ عليه في الشدةِ والرخاء لا على سواه عرافاً كانَ أو ساحراً أو كاهنا أو مقبورا:
لا قبة ترجى ولا وثن ولا قبر….. ولا نصب من الأنصاب….الله ينفعني ويدفع ما بي.
بالله ثق وله أنب وبه استعن…….….. فإذا فعلت فأنت خير معان.
ها هوَ سيدُ المتقين صلوات اللهِ وسلامهُ عليه في الشدةِ والرخاء، لا تراهُ إلا أواباً منيباً مخبتاً إلى ربه فبهداه يهتدي المقتدون.
(ثبت عند ابن حبان في صحيحه عن عطاءٍ رضي الله عنه قال دخلتُ أنا وعبيدُ بنُ عميرٍ على عائشةَ رضي اللهُ عنها، فقال عبيد:
( حدثينا بأعجبِ شيء رأيتهِ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت قام ليلةً من الليالي فقال يا عائشةَ ذريني أتعبدُ لربي،
قالت فقلتُ واللهِ إني لأحبُ قربك، وأحبُ ما يسرُك، فقام وتطهرَ ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجرَهُ، ثم لم يزل يبكي حتى بل الأرض من حولِه.
وجاء بلالُ رضي الله عنه يستأذنه لصلاة الفجر، فلما رآه يبكي بكى وقال يا رسولَ الله بأبي أنت وأمي تبكي وقد غفرَ لك،!!
وقال يا رسولَ الله بأبي أنت وأمي تبكي وقد غفرَ لك،!!
قال يا بلال أفلا أكون عبداً شكورا،
آياتٍ أنزلت على الليلةَ ويلُ لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها، ويلُ لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ، لَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)190-191- آل عمران.
هذا في رخائه صلى الله عليه وسلم
يا نائما مستغرقا في المنام…..……. قم واذكر الحي الذي لا ينام
وفي الشدةِ تنقلُ لنا أمُ المؤمنين عائشة رضي الله عنه أيضا كما ثبت في البخاري أنها قالت لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم (هل أتى عليكَ يومُ كان أشدَ من يومِ أحد؟، قال لقد لقيتُ من قومِك ما لقيت، وكان أشدُ ما لقيتُ منهم يوم العقبةِ إذ عرضت نفسي على ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)
يا لله يعيشُ قضيتهَ بكل أحاسيسه ومشاعره.
همُ بلغَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن لا يشعرَ بنفسه من الطائفِ إلى السيلِ الكبير.
بما كان يفكر؟ ترى بما استغرقَ هذا الاستغراقَ الطويل؟
لعلَه كان يفكرُ في أمر دعوته التي مضى عليها عشرُ سنينَ ولم يستطع نشر الإسلام بالحجمِ الذي كان يتمنى، لعلَه كان يفكرُ كيف سيدخلُ مكةَ فهو بين عدوين.
عدوٍ خلفّه وراء ظهرهِ أساء إليه ولم يقبل دعوته، وعدوٍ أمامهُ ينتظرَه ليوقِع به الأذى.
(يقول صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني فنظرة فإذا فيها جبريلُ عليه السلام ( لطفُ الله ورحمةُ الله في لمن يتعرفونَ عليه في الرخاء)، فناداني فقال إن الله قد سمِع قول قومِك وما ردوا عليك، وقد بعث اللهُ إليك ملكُ الجبالِ لتأمرَه بما شاءت، فناداني ملكُ الجبالِ فسلمَ علي ثم قالَ يا محمد ذلك فيما شئت، إن شاءتَ أن أطبقَ عليهمُ الأخشبين)
الله ينصر من يقوم بنصره…….…والله يخذل ناصر الشيطان
كان صلى الله عليه وسلم رحيماً بقومه، فما أرسلَ إلا رحمةً للعالمين، الأمل في هدايتِهم يفوقُ في إحساسهِ الشعورُ بالرغبةِ في الانتقامِ من أعدائهِ والتشفي من قومِه اللذينَ أوقعوا به صنوفَ الأذى.
(فقال صلى الله عليه وسلم لملكَ الجبال ، كلا بل أرجو أن يخرجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبدُ اللهَ وحدَه لا يشركُ به شيئا). وكان ما رجاه وأملَه بذرة طيبة في أرض خصبة لم تلبث أن صارت شجرة مورقة.
يبني الرجال وغيره يبني القرى…..شتان بين قرى وبين رجال
رخاءُ وشدةٌ لله وتلك حقيقةٌ تقوى الله.
حقيقة الكلمة أن تكون كراكب على ظهرِ خشبةٍ في عرضِ البحرِ:
تتقاذفُك الأمواجُ والأثباج وأنت تدعُ يا رب يا ربِ لعل اللهَ أن ينجيك.حالك ومقالك:
يا مالك الملك جد لي بالرضاء كرما…….فأنت لي محسن في سائر العمر
يا رب زدنيَ توفيقا ومعرفة……………وحسن عاقبة في الورد والصدر
حقيقة الكلمة أن لا تنطقَ بكلمةٍ:
ولا تتحرك حركةٍ ولا تسكنَ سكوناً إلا وقد أعددتَ لهُ جواباً بين يدي الله فإنك مسؤولٌ فأعدَ لسؤالِ جواباً صوابا.
وعندها يثبت المهيمن ….. بثابت القول الذين أمنوا
ويوقن المرتاب عند ذلك……….بإنما مورده المهالك
حقيقة الكلمة حذارك أن يأخُذَك الله وأنت على غفلةٍ:
أن لا يحضرَ حقٌ لله إلا وأنت متهيء له، أن لا تكونَ عدواً لإبليسَ في العلانيةِ صديقاً له في السر.
حقيقة الكلمة استشعار قدرَةِ الله:
خصوصاً عند إرادةِ الظلم لعبادِ الله، عاملاً أو خادماً كائناً من كان، يحسبُ المرء أنه يُعجزُ اللهَ فيلهو ويملئ الأرض ظلماً.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي مسعودٍ البدريَ قال:
(كنتُ أضربُ غلاماً لي بالسوط، فسمعتُ صوتاً من خلفي ينادي “اعلم أبا مسعود” فلم أفهمِ الصوت من الغضب.
فلما دنى مني فإذا هوَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول “اعلم أبا مسعود” ، “اعلم أبا مسعود”.
فألقيتُ السوطَ من يدي هيبةً من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم و إذا به يكرر:
اعلم أبا مسعود لله أقدرُ عليك منك على هذا الغلام.
قال فقلت لا أضربُ مملوكاً بعد اليومِ أبدا يا رسول الله،هوَ حرٌ لوجه الله.
فقال صلى الله عليه وسلم ، أما أنك لو لم تفعل ذلك للفحتك النار أو لمستك النار)
من سارا في درب الردى غاله الردى…….ومن سار في درب الخلاص تخلصا
ثبت عن عبد اللهِ ابن اونيسٍ كما في المسند أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال:
( يحشرُ الناسَ يومَ القيامة عراةً غُرلا فيناديهِم اللهُ نداءً بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعَه من قرُب أنا الملك أنا الديان لا ينبغيَ لأحدٍ من أهلِ الجنةِ أن يدخلَ الجنة ولأحدٍ من أهلِ النارِ عندَه مظلمة حتى اللطمة، ولا ينبغيَ لأحدٍ من أهلِ النارِ أن يدخلَ النار ولأحدٍ من أهلِ الجنةِ عندَه مظلمةُ حتى اللطمة)
من يعمل السوء سيجزى مثلها….….أو يعمل الحسنى يفوز بجنان
خلقَ الظلمُ أمه قلتُ الدين وسوءٌ الأخلاقِ أبوه.
حقيقة الكلمة نصرة ونجدة المظلومين:
وإنصافهم عند القدرة من الظالمين، ومن نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الآخرة، وليس من شأن المسلم المتقي الله حقا أن يدع أخاه فريسة في يد من يظلمه أو يذله وهو قادر على أن ينصره.
(من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة)
ثبت عند ابن ماجة في سننه عن جابر قال:
( لما رجعت مهاجرة البحر (مهاجر الحبشة) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
آلا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟
قال فتية منهم بلى يا رسول الله، بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها فلما قامت التفتت إليه وقالت ” سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الله الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون كيف يكون أمري وأمرك عنده غدا”.
فقال صلى الله عليه وسلم صدقت، صدقت كيف يقدس الله أمة لا يأخذ لضعيفهم من شديدهم.
أبغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم). بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم.
إن من الضعفاء من لو أقسم على الله لأبره، فإذا استنصروكم فعليكم النصر.
كم يستغيثون، كم هم يئنون.
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان.
والعالم اليوم شاهد بهذا، فالمستذل الحر، والمزدرى عالي الذرى والاوضع الاشرف.
كم في المسلمين من ذوي حاجة، وأصحاب هموم وصرعى مظالم وفقراء وجرحى قلوب في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين أنّا اتجهت:
كبلوهم قتلوهم مثلوا ……………..بذوات الخدر عاثوا باليتامى
ذبحوا الأشياخ والمرضى ولم ……يرحموا طفلا ولم يبقوا غلاما
هدموا الدور استحلوا كل ما ……….حرم الله ولم يرعوا ذماما
أين من أضلاعنا أفئدة …………تنصر المظلوم تأبى أن يضاما
نسأل الله الذي يكلأنا……….. نصرة المظلوم شيخا أو أياما
لا تكن العصافير أحسن مرؤة منا، إذا أوذي أحد العصافير صاح فاجتمعت لنصرته ونجدته كلها، بل إذا وقع فرخ لطائر منه طرنا جميعا حوله يعلمنه الطيران فأين المسلم الإنسان؟
إذا أخصبت أرض وأجدب أهلها……فلا أطلعت نبتا ولا جادها السماء
انصر الحق والمظلوم حيث كان ولا تطمع بوسام التقوى حقيقة إلا أن كنت فاعلا متفاعلا نصيرا بكلمة بشفاعة بإعانة بإشارة خير بدعاء بعزم ومضاء:
عبئ له العزم واهتف ملئ مسمعه….لا بد لليل مهما طال من فلق
هذا عرينك لكن أين هيبته…….والليث ليث فتي كان أو هرما
على الليالي على الأيام في ثقة……نّقل خطاك وإلا فابتر القدما
كالسيل منطلقا، كالليل مهتدما….. حتى ترى حائط الطغيان منهدما
حقيقة الكلمة إيثار رضاء الله:
على رضاء أي أحد وإن عظمت المحن وثقلت المؤن وضعف الطول والبدن.
تقديم حب الله على حب كل أحد إن كان أبا أو أخا أو زوجا أو ابنا، أو غيره مالا سكنا. نعم:
(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)التوبة.24.
لما بلغت الدعوة في مكة نهايتها واستنفذت مقاصدها، أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة وللمسلمين معه فما تلكئوا ولا ترددوا بل خرجوا يبتغون فضلا من الله ورضوان.
تركوا الأهل والوطن تركوا المال والولد ولم يبقى منهم إلا مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف.
وقد كانت الهجرة عظيمة شاقة صعبة على المسلمين الذين ولدوا في مكة ونشئوا بها.
ومع هذا هاجروا منها استجابة لأمر الله تعالى ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ولسان حالهم:
مرحبا بالخطب يبلوني إذا……. كانت العلياء فيه السبب.
ثم مرضوا في المدينة، أصابتهم الحمى فأباحوا بأشعار وأقوال خلال المرض تدل على صعوبة ما لاقوه وعانوه على نفوسهم.
فها هي عائشة تأتي إلى أبيها رضي الله عنهما وقد أصيب بالحمى يرعد كما ترعد السعفة في مهب الريح، فتقول له كيف تجدك يا أبي؟
فيقول :كل امرؤ مصبح في أهله….….والموت أدنى من شراك نعله.
فتقول عائشة والله ما يدري أبي ما يقول.
وبلال رضي الله عنه محموم فيسائل نفسه، هل سيرى سوق مجنة ومجاز وجبال مكة كشامة وطفيل ونباتها كا الإذخر والجليل ثم يرفع عقيرته فيقول:
آلا ليت شعري هل أبيتنا ليلة……..…بواد وحول إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة………… وهل يبدوا لي شامة وطفيل
ولما رءا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه أمضه ذلك وآلمه إذ كان يعز عليه معاناتهم فدعا ربه (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وبارك لنا في مدها وصاعها وأنقل حماها إلى مهيعة أو إلى الجحفة). فكانت بعدها من أحب البلدان إلى أصحابه حالهم:
اختر لنفسك منزلا تعلو به……..…..أو مت كريما تحت ظل القسطل
وإذا نبا بك منزل فتحول.
أخيرا هذه مشاعر مسلم حول الهجرة هو أبو أحمد ابن جحش رضي الله عنه وأرضاه يصورها مع زوجته في أسلوب عظيم يبين فيه أنه يطلب ويرغب ما عند الله في هجرته ولو كان ذلك في شدة مشقة وتعب ونصب وكد، راجيا أن لا يخيبه الله كما يروى فيقول:
ولما رأتني أم أحمد غاديا………….…بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول فإما كنت لا بد فاعل………..فيمم بنا البلدان ولُتنأ يثرب
فقلت بل يثرب اليوم وجهنا…………..وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهي يا عذولي ومن يقم…..إلى الله يوما وجهه لا يخيب
فكم قد تركنا من حميم وناصح……ونائحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن موتا نأينا عن بلادنا…………ونحن نرى أن الرغائب نطلب
في هذا ما يصور قساوة الخروج من أرضهم لكنه خروج في سبيل ربهم فماذا يضرهم والله مولاهم.
حنوا إلى أوطانهم واشتاقوا إلى خيام اللؤلؤ في جنة مولاهم فغلبوا الأعلى على الأدنى والأنفس على الأرخص والأسمى على الأخس:
شتان بين امرأ في نفسه حرم قدس……… وبين امرأ في قلبه صنم
خذني إلى بيتي، أرح خدي على…… عتباته وأقّبل مقبض بابه
خذني إلى وطن أموت مشردا……… إن لم اكحل ناضري بترابه
إنه الجنة والذي نفسي بيده لو كنت أقطع اليدين والرجلين مذ خلق الله الخلق تسحب على وجهك إلى يوم القيامة، ثم كان مأواك الجنة ما رأيت بؤسا قط.
فأسمع وعي، لا تأثر الأدنى على الأعلى فتحرم ذا وذا، يا ذلة الحرمان.
آلا ربّ مبيض ثيابه اليوم مدنس لدينه،
آلا ربّ مكرم لنفسه اليوم مهين له غدا،
أدفعُ سيئات الأمس بحسنات اليوم:
( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ)هود.114.
ومن حقيقة هذه الكلمة أن لا تنظر إلى صغر الخطيئة:
بل تنظر إلى عظم من عصيت إنه الله الجليل الأكبر الخالق البارئ والمصور،
كم من ذنب حقير استهان به العبد فكان هلاك له:
(وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)النور.115.
ثبت عند أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه قال(كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار.
وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما.فناما واستيقظا وهو نائم لم يهيأ لهما طعاما.
فقالَ أحدُهما لصاحبه إن هذا لنؤم (يعني كثير النوم).
ثم أيقظاه فقالا إئتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقل له:
إن أبا بكرٍ وعمرَ يقرئانكَ السلام وهما يستأدمانك (أي يطلبان منك الايدام).
فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره.فقال أقرئهما السلام وأخبرهما أنكما قد إئتدما.
فرجع وأخبرهما أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم يقولُ إنكما قد ائتدمتما.
ففزعا فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلا يا رسولَ الله بعثنا إليك نستأدمك، فقلت قد أئتدمنا.
فبأي شيء أئتدمنا؟ قال بلحم أخيكما.والذي نفسي بيده إني لأراء لحمه بين أنيابكما.
قالا فأستغفر لنا يا رسولَ الله.قال عليه الصلاة والسلام بل أمروه هوَ أن يستغفرَ لكما)
عباد الله إن أبا بكرٍ وعمرَ ما نظرا إلى ما قالا، فقد كانت كلمةً قد نقولُ أكبر منها مئات المرات.
لكنهما نظرا إلى عظمةِ من عصوا إنه الله، وتلكَ حقيقة تقوى الله، فإياكم ومحقراتِ الذنوب فأنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن لها من اللهِ طالبا.
لا تحقرنَ صغيرةً إن الجبال من الحصى
والقطرُ منه تدفقِ الخلاجانِ.
حقيقة الكلمة الحذر من استحلالِ محارمِ الله:
بالمكرِ والاحتيال، وليعلم العبدُ أنه لا يخلّصُه من الله ما أظهره مكرا من الأقوالِ والأفعال.
فأن لله يوماً تكعُ فيه الرجالُ وتشهدُ فيه الجوارح والأوصال.
وتجري أحكامُ الله على القصودِ والنيات، كما جرت على ظاهرِ الأقوالِ والحركات.
يومَ تبيضُ وجوهٌ بما في قلوبِ أصحابِها من الصدق والإخلاصِ للكبير المتعال.
وتسودُ وجوهٌ بما في قلبِ أصحابِها من الخديعةِ والمكرِ والاحتيال.
هناك يعلمُ المخادعون أنهم لأنفسَهم يخدعون وبها يمكرون:
(وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ،) الأنعام.123.( وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)الأعراف.169.
هذه بعض حقائق الكلمة.
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد.
اللهم آتي نفوسنا تقواها.
اللهم زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولها. وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.
اللهم ارحم سائلك ومؤملك لا منجأ له ولا ملجئ إلا إليك.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء.
يا سميع الدعاء
الله ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنوا عبيدك بنو إمائك احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم، الله زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم أنت أرحم بهم وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين.







...




قديم 05-04-2021, 12:04 AM
  المشاركه #4
كاتب مميز
تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 27,993
 



واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله – لفضيلة الشيخ / محمد مختار الشنقيطي

نعم الله كثيرة لا تحصى، وإن من أعظمها معرفة كتاب الله تبارك وتعالى، ذلك الكتاب الذي احتوى على مواعظ وقوارع تقرع الأسماع والقلوب، ومن هذه المواعظ قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)؛ حيث بين الله فيها أنه لابد للإنسان من رجوع إلى الله للحساب ولفصل القضاء، ثم إلى جنة أو نار، فمن اتقى الله وأصلح فهو من أهل الجنة، ومن غفل أو تغافل فالنار موعده.
القرآن العظيم من نعم الله التي لا تحصى
الحمد لله الذي خلق الخلق، فأحصاهم عدداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْـداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً إمام الهدى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه شُموس الدجى، وعلى جميع من سار على نهجهم المبارك ثم اهتدى.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن لله على العباد نعماً عظيمة ومِنَناً جليلةً كريمة، وقد كان من أجلِّها وأعظمها على الإطلاق: هذا الكتاب المبين والصراط المستبين، الذي أخرج الله به العباد من الظلمات إلى النور، فأنار به القلوب، وشرح به الصدور، فانتقلت تلك النفوس المؤمنة من جحيم الهوى والشرور وأليم العذاب والغرور.
هذا الكتاب المبين الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، هذا الكتاب الذي جعله الله تبارك وتعالى نوراً، هادياً للسداد والصواب.
كم نبَّه الله به من غافلين! وأيقظ به من نائمين! وهدى به من ضالين حائرين!
هذا الكتاب الذي فيه الوعد والوعيد، وفيه التخويف والتهديد، وفيه الترغيب والترهيب، وفيه ذكر النعيم وذكر الجحيم، كم فيه من آياتٍ تضمنت تلك العظات البالغات! كم فيه من آياتٍ أنار الله عز وجل بها السبل لطاعته وجنته! فما ألذ الموعظة إذا كانت من الله جل جلاله! وما أطيب العظات إذا كانت من فاطر الأرض والسماوات!
مواعظ القرآن تقرع القلوب قرعاً
إن العظة من الله تبارك وتعالى رحمة بتلك القلوب الحائرة التائهة السادرة النائمة في غيها، إن هذه المواعظ يقرع الله عز وجل بها القلوب، وينير بها السبل والدروب، علَّ تلك القلوب أن تنيب إلى الله علاَّم الغيوب.
إن المواعظ رحمة من الله تبارك وتعالى، يهدي بها من الضلال، ويرحم بها من العذاب.
ومن هذه المواعظ: موعظةٌ خَتَمَ الله عز وجل بها مواعظ القرآن.
من هذه المواعظ: آية كريمة كانت هي آخر الوصايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قرع بها القلوب، فذكرها بالوقوف بين يدي الواحد الديان، آيةٌ ما عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا أياماً قليلة، كانت هي آخر الآيات، جاءت بعد مائتين وثمانين آية من الزهراء الأولى، تذكِّر العباد بيومٍ مشهود ولقاءٍ موعود، لا يغني فيه والدٌ ولا مولود، اشتملت على موعظتين ومشهدين عظيمين.
المشهد الأول: قوله تعالى: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله)
أما المشهد الأول: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281].
وأما المشهد الثاني: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أما المشهد الأول: فذكَّرنا بيومٍ طالما نسيناه، وموقفٍ حقٍّ آمنا به وصدقناه، ذكَّرنا بيومٍ هو آخر الأيام، وذكَّرنا بيومٍ هو إما عذابٌ أو مسكٌ للختام، ذكَّرنا باليوم الآخر الذي تغصُّ فيه الحناجر، فلا يوم بعده، ولا يوم مثله، إنه اليوم العظيم، والموقف الجليل بين يدي العظيم الكريم.
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]: هي الآية التي أقضَّت مضاجع الصالحين، كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، فيا لله مِن أجساد إذا أوت إلى فراشها تذكرت يوم لقاء ربها، فقامت تتقلب بين يديه، تناجيه وتناديه، تسأله الرحمة إذا حلَّت بناديه.
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]: هذا اليوم العظيم الذي كتب الله عز وجل على كل صغيرٍ وكبير، وكل جليل وحقير أن يُقاد إليه عزيزاً أو ذليلاً، كريماً أو مهاناً، كتب الله عز وجل علينا أن نصير إلى ذلك اليوم المشهود، واللقاء الموعود.
ولكن قبل ذلك اليوم، وقبل ذلك المشهد العظيم: لحظةٌ ينتقل الإنسان فيها من دار الغرور إلى دار الشرور أو دار السرور، لحظةٌ من اللحظات التي يُكتب فيها للعبد أنه منتقل إلى ذلك اليوم، تلك اللحظة التي يُلقي الإنسان فيها آخر النظرات على الأبناء والبنات والإخوان والأخوات، يُلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من صميم قلبه الآهات والزفرات.
إنها اللحظة التي يؤمن فيها الكافر، ويوقن فيها الفاجر.
إنها اللحظة التي يعرف الإنسان فيها حقارة الدنيا.
إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها أنه فرَّط كثيراً في جنب الله.
إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فرَّط فيها في جنب الله، ينادي: ربَّاه ربَّاه، ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100].
إنها اللحظة الحاسمة، والساعة القاصمة التي يدنو فيها رسول الله -أعني: ملك الموت- لكي ينادي، فيا ليت شعري هل ينادى نداء النعيم أو نداء الجحيم؟!
ويا ليت شعـري هـل يقـال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28].
أو يقال: (يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب)؟!
ويا ليت شعري كيف تكون الخواتم؟!
ويا ليت شعري من تلك الساعة التي أقضَّت مضاجع الصالحين؟ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، وفي لحظةٍ واحدة أسلمت الروح إلى بارئها، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:29-30]؟!
هناك يحس العبد بدارٍ غريبة، ومنازل رهيبة عجيبة!
فلا إله إلا الله! في لحظة واحدة ينتقل العبد من دار الهوان إلى دار النعيم المقيم!
ولا إله إلا الله! في لحظة واحدة ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة! وفي لحظة واحدة ينتقل من جوار الأشرار إلى جوار الواحد القهار! وفي لحظة واحدة طويت صفحاتُ الغرور، وبدا للعبد هولُ البعث والنشور!
ولا إله إلا الله! مضت الملهيات والمغريات، وبقيت التَّبِعات!
ولا إله إلا الله! من ساعةٍ تُطْوَى فيها صحيفتك، إما على الحسنات أو على السيئات، فتتمنى حسنة تزاد في الأعمال، أو حسنة تزاد في الأقوال، تتمنى صلاح الأقوال والأفعال! رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10]، فتحس بقلبٍ متقطعٍ من الألم، تحس بالشعور والندم؛ أن الأيام انتهت، وأن الدنيا قد انقضت؛ لكي تستقبل عالم الجد أمام عينيك، وتُرْهَن بما قلتَه وفعلتَه بين يديك، هناك حيث يُسْلِم الإنسان روحَه لبارئها، وينتقل إلى الآخرة بما فيها، وفي لحظةٍ واحدة أصبح العبد كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، طُوِيت الصفحات، وصرتَ في عداد الأموات، تذكرُ كأن لم تكن في الدنيا، كأن عينك لم ترَ، وكأن أذنك لم تسمع، وكأن الأرض لم تَضْرِب عليها الخُطى!
ولا إله إلا الله! من ساعةٍ نزلتَ فيها أول مراحل الآخرة!
ولا إله إلا الله! إذ صرتَ في عداد تلك السفينة الماخرة، واستقبلت الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة أو عيشة نكيدة، ونزلت في عداد أولئك الغرباء بين الأجداث والبلاء، هناك حيث تُفْسح القبور لأهلها، ويَزداد السرور على من حل بها، هناك حيث تنسى نعيم الدنيا مع النعيم المقيم، هناك حيث تنال من الله البركات والرحمات والتكريم! فيا ليت شعري ما حال أهل القبور! كم من قبورٍ في كهوفٍ مظلمة، وفي أماكن موحشة ملئت أنواراً وسروراً على أهلها!
ولا إله إلا الله! كم من قبورٍ حولها الأنوار مضيئة، والناس يسرحون ويمرحون، وفيها الجحيم والعذاب المقيم.
ولا إله إلا الله! من دارٍ تقارَب سكانها، وتفاوَت عُمَّارها، فقبرٌ يتقلب في النعيم والرضوان العظيم من الرحيم الحليم الكريم، وقبرٌ في دركات الجحيم والعذاب المقيم، ينادي ولا مجيب، ويستعطف ولا مستجيب، انقطعت الأيام بما فيها، وعاين الإنسان ما كان يقترفه فيها!
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، يـا أمـة محـمـد، وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، يوماً لا يغني فيه والد ولا مولود، إنه اليوم المشهود، واللقاء الموعود.
فاللهم يا سامع الدعوات، ويا من تُحْيِي الأموات بعد الرفات، نسألك أن تجعل أسعد اللحظات وأعزها: لحظة المصير إليك.
اللهم اذكرنا فيها برحمتك، وعُمَّنا فيها بمغفرتك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
المشهد الثاني: قوله تعالى: (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)
أيها الأحبة في الله: ومن المشهد الأول إلى المشهد الثاني، الذي وعظ الله به الأولين والآخرين: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]: فلما ضَمَّت القبور أهلَها، وانطوت بمن حل فيها، ونُعِّمَ أو عُذِّب فيها، ولما جُمِعَت تلك الأشلاء، وتلك الأعضاء، نادى منادي الله عليها أن تخرج إلى اللقاء الموعود، واليوم المشهود، إلى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48] .. يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الدخان:41]، فصاح الصائح بصيحته، ففزعت الأسماع والآذان إذ قُرِعَت بصوته، وخرجت من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربها حفاةً عراةً غُرلاً، فلا أنساب، ولا أحساب، ولا جاه، ولا عز، ولا مال، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] .. وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87]، أتاه العزيز ذليلاً، وأتاه الكريم مهاناً، أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87]، نُسِيت الأنساب، ومضت الأحساب؛ لكي تُذَلَّ تلك الأجساد بين يدي رب الأرباب.
إنه اليومُ الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين.
إنه اليومُ الذي تنتهي عنده الأيام، وتتبدد عنده الأوهام والأحلام.
إنه يومٌ تجتمع فيه الخصوم، وينصف فيه الظالم والمظلوم.
إنه اليوم الذي أعده الله للعباد فتُنْشَر فيه الدواوين، وتُنْصَب فيه الموازين لحكومة إله الأولين والآخرين.
إنها المسئولية العظيمة.
إنها المسئولية الجليلة الخطيرة.
إنها مسئولية الآخرة.
كل هذه الجموع وكل هذه الأمم أقيمت في ذلك المشهد العظيم، وذلك اليوم العظيم؛ لكي تنهال عليها الأسئلة، وتعد لها درجاتها ودركاتها بما تجيب.
إنه اليوم الذي جمع الله فيه الأولين والآخرين من أجل السؤال هناك حيث تغص الحناجر بغصصها هناك، يوم الطامة والصاخة، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14].
وخرج العبد حسيراً كسيراً أسيراً، خرج حقيراً ذليلاً؛ فلا ثوب يكسيه، ولا ثوب يواريه، خرج إلى الله حافياً عارياً، خرج إلى ربه، خرج إلى خالقه، خرج إلى جبار السماوات والأرض وقهارهما؛ لكي يسأله ويحاسبه ويجزيه.
فلا إله إلا الله! في يومٍ نُسِيَت فيه الملهيات، وزالت فيه المغريات، وعاينَ العبدُ فيه الحقائقَ أمام عينيه، جُمِعَت فيه الأمم على عرصةٍ واحدة، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ [الأنعام:94]!
ولا إله إلا الله! من أرضٍ لم تطأها قدم غير تلك الأقدام!
ولا إله إلا الله! إذا شعت الشمس وتبدد الظلام!
ولا إله إلا الله! إذا طال الوقوف بين يديه!
ولا إله إلا الله! يوم يُرْهَن العبد بما جناه بيديه!
خرجت تلك الأمم حفاةً عراةً غرلاً، فأين الحرير واللباس؟! وأين الشدة والشوكة والبأس؟!
قد انكسر العباد لرب الجِنَّة والناس خرجوا منها صفر اليدين إلا من رحمته، ووقفوا في ذلك المشهد العظيميَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ [الدخان:41-42]، يوم يفر المرء فيه من أحب الناس إليه، فلا يلتفت عن يمينه ولا عن يساره، وأبى الله إلا أن يشخص العبد إلى السماء بعينيه، ينتظر فصل القضاء، ينتظر حكم رب الأرض والسماء، أفي الجنة أم في النار يكون السواء! وشخُصَت الأبصار، وولَّت بين يدي الواحد القهار، وخرج أهل الصالحات وقد ابيضَّت الأيدي والوجوه بآثار الحسنات، خرجوا بذلك الأثر العظيم من الله الكريم، فابيضت عند الله وجوههم، وما عَظُمَ المقام عليهم، وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103] ووقف العباد بين يدي رب العباد لكي يفصل بينهم في يوم التناد.
ونادى منادي الله لكل عبدٍ بما جنت يداه، ودعيتَ على رءوس الأشهاد لكي تسأل عن كل قولٍ قلتَه، وعن كل عملٍ عملتَه.
هناك حيث تقف بين يدي الله، والشهود حاضرة، والعيون إلى الله ناظرة.
هناك حيث يوقف العبد بين يدي الله جل جلاله فينادي منادي الله: يا فلان بن فلانة، قم للعرض على الله، فلا ينادَى أحدٌ بأبيه؛ لكي تزول الأحساب والأنساب، ويَذِل العباد بين يدي الله رب الأرباب، ودعيتَ أمام الأولين والآخرين فرَعَدَت فرائصك من خشية الله، واصطكَّت القدمان بين يدي الله، وجئتَ بزادك للقاء الله، وسألك الله عن هذه الأيام التي مضت، وعن هذه السنين والأعوام التي انقضت، سألك عن الشباب، وما كان فيه من اللهو مع الأصحاب والأحباب، سألك الله عن أيامٍ فنُشِرَت بين يديك، لا تخرِم منها لحظةٌ واحدة، فإما لك وإما عليك، عُرِض الشباب عليك بأيامه وما فيه من الشهوات والملهيات، فكُشِفت الأستار، وتبدَّت للأنظار.
هناك حيث تبيِّن الليالي بما اجترحتَ فيها.
هناك حيث تحمد عيناً سهرت على طاعة الله، وقدماً طالما انتصبت بالوقوف بين يدي الله، فقلتَ: رباه! أما ليلي: فوقوفٌ بين يديك أناجيك بالقرآن، وأما نهاري: فصيامٌ لوجهك يا رحمن.
وأما يديَّ: فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم سَتَرْتُ بها من عورات! وكم فرَّجْتُ بها من كربات! أنفقتُها لهذا اليوم العظيم، اللهم مددتها لهذا اليوم العظيم، وحُسْن ظني فيك، فلا تخيبني إذ وقفتُ بين يديك.
وأما جَناني: فأسكنته حبك وتأييدك، فعشتُ وأنت الشهيد، ووحَّدتُك وأنت الحميد المجيد، ما ناديتُ أحداً سواك، ولا تعلقت بشيء عداك، ربِّ صبَبْتَ عليَّ البلايا فعذتُ بك وحدك ولم أعذ بشيء عداك، وصبَبْتَ عليَّ الرزايا فصبرتُ واحتسبتُ لهذا الموقف بين يديك.
وأما لساني: فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم ذكرتك به مع الذاكرين! وكم أثنيت عليك به مع المثنين! وكم تلوت به آياتك! اللهم فعلتُها وقلتُها لوجهك العظيم، اللهم فعلتُها ابتغاء رضوانك الكريم.
اللهم قدمي: ضربتُ بها الخطى إلى بيتك اللهم خرجت بها في الظلمات، فقمتُ بها مع القائمين، ونصبتها مع الراكعين الساجدين.
أما يديَّ: فكم تبطنها الليل منتصباً بين يديك!
وأما وجهي: فقد عفَّرته بالسجود بين يديك!
فيا من خشع لك سمعي وبصري! نجني من هول هذا اليوم العظيم.
اللهم قليلٌ فعلتُه في جنبك، كثيرٌ أحسنتُ به إليك، اللهم مع هذه الحسنات والباقيات الصالحات فالفضل لك جل جلالك، والفضل لك وحدك لا إله غيرك، فقيل: مشهودك؟ فشهدت الأرض التي أقلتك، والسماء التي أظلتك، وقال الله: صدقتَ وبررتَ، خذوا عبدي إلى جنان النعيم، خذوه إلى الرضوان العظيم. فنال الكتاب باليمين، وصاح أمام العالمين: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَـهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَـهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَـةٍ [الحاقة:19-21]، وفتحت أبواب الجنان، وطاف الحور والوِلدان، وذهب النكد والنصب، وزال العناء والتعب.
فهنيئاً لتلك الأقدام التي انتصبت في جوف الليل بين يدي الله تنادي!
وهنيئاً لتلك الألسن التي ضجَّت بالدعاء بين يديه تناجي! اليوم يومها، والنعيم نعيمها، والسرور سرورها.
ونادى منادي الله تلك النفس الظالمة في جنب الله: يا فلان بن فلانة، أنْ قُمْ إلى العرض بين يدي الله. فسُئِل عن ليلٍ طالما قضاه في معصية الله، وعن نهارٍ أضاعه، وما الخير فيه أسداه.
فنادى منادي الله: أي حسنةٍ ترجوها عندنا؟! وأي صالحة قدمتَها في جنب الله؟!
فنُشِرَت الفضائح، وصاح بين يدي الله الصائح:
فقالت القدم: إلى الحرام طالما مشيتُ! وفي جنبك رباه أسأتُ واعتديتُ!
وقالت اليد: كم خطفتُ من الآثام! وكم هتكتُ وأكلتُ من الحرام! فلا منك خفتُ ربِّ حقيقة الخوف، أرجو رحمتك إذ وقفت بين يديك.
وقالت العين: أما أنا فقد نظرتُ وتمتعتُ، رباه! متَّعَنِي بالحرام، وتزيَّن بي في الفواحش والآثام!
وشهدت الفروج بآثامها!
والجوارح بخطيئاتها!
ثم عَرَضت على الله مظالمها.
وقالت الآذان: اللهم استمعتُ للحرام، فطالما سَهِر ليله يُمَتِّعُني بالآثام! وكم سمعتُ من الغيبة والنميمة!
اللهم إن عبدك هذا قد ظلم وفجر، وشَهِدَت الجوارح بآثامها، وعُرِضَت الفضائح بين يدي الله ربِّها، فقال الله: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فقد اشتد غضبي على مَن قلّ حياؤه مني.
ووقفت تلك النفس الآثمة الظالمة على نارٍ تلظى وجحيم تغيظ وتزفر، وبدا لها مآلُها، فقالت وتمنَّت أن لو رجعت لكي تحسن في جنب ربها، فكُبْكِبَت على رأسها وجبينها، فهوت في تلك المهاوي المظلمة، وتقلبت بين الدَّرَكات والجحيم والحسرات، مضت الشهوات بأهلها، وانقضت الملهيات بأصحابها، وذاق الهوان بعد المعزة والكرامة، ونزل إلى ذلك الدَّرْك العظيم من الجحيم، فكأن لم يكن مَرَّ به نعيم قط.
روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه (يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيُغْمَس في النار غمسة، فيقال: عبدي! هل مرَّ عليك نعيمٌ؟ فيقول: لا وعزتك) وهوى في تلك الدَّرَكات رهين السيئات، فلا مال، ولا بنون، ولا عشيرة، ولا أقربون، فُرِّق بين الأم وولدها، والآباء وأبنائهم، وفُرِّق بين الأصحاب والأحباب فراقاً لا لقاء بعده أبداً، فهناك نعيم لا جحيم بعده، وجحيم لا نعيم وراءه، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76].
أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا، أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا، أي إخواني! لمثل هذا فاستعدوا، فإن الموت قريب، (وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء)، (كن في الدنيا كأنك غريب).
تزودوا من هذه الدار من الباقيات الصالحات.
أكثروا من ذكر الله، فما خاب عبدٌ أكثر من ذكر الله، واعملوا بوصية الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42].
واعملوا بوصية الله في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
وحق على الله عز وجل ما من عبدٍ أطاعه واتقاه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].
فمن يقول لك: ستلقاني وأبشر، كيف يكون الظن به جل جلاله.
وقال الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً * وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً [الأحزاب:45-47].
أبشروا يا أهل الإيمان إذا صَلُحَت لله السرائر، ولقي العبد ربه موحداً على العقيدة التي ترضيه، والإيمان الذي هو القُرْبَة بين يديه، فله من الله البشارة، فإن عَظُمَت الإساءة، فأعدوا لها الاستغفار، وحُسْن الظن بالله العظيم القهار.
أيها الأحبة في الله: من رجا لقاء الله؛ فليخفف الأحمال من الأوزار:
أما الألسن فكفوها عن الغيبة، والنميمة، كفوها عن أعراض المسلمين، وتتبع عورات المؤمنين، وكفوها عن القيل والقال، وكثرة السؤال، وعمَّا لا يرضي الكبير المتعال.
وعُفُّو الأسماع عمَّا لا يرضي الله.
وأعدُّوا الجوارح وسخِّروها في طاعة الله.
اللهم رب السماوات السبع وما أظلَّت، ورب الأرضين السبع وما أقلَّت، ورب الشياطين وما أضلَّت، ورب كل شيء ومليكه، فاطر السماوات والأرض، يا من جل جلالك، وتقدست أسماؤك، نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيتَ به أجبتَ، وإذا سئلتَ به أعطيتَ، أن ترحمنا عند السكرات.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه.
اللهم آمِن فيه روعاتنا، واستر فيه عوراتنا، واغفر فيه زلاتنا وخطيئاتنا.
اللهم قبل أن نصير إلى الحفر المظلمة، وقبل أن نصير إلى تلك المشاهد المؤلمة، وفي هذه الدار، نسألك أن تذكرنا فيها بالرحمات، وأن تكفر عنا بها الخطيئات، وأن تستر لنا بها العورات، وأن لا تفضحنا بها أمام البريات، يا فاطر الأرض والسماوات.
اللهم أسبغ شآبيب الرحمات على موتى المسلمين.
اللهم اغفر لأهل القبور من المؤمنين.
اللهم أسبغ عليهم الرحمات.
اللهم أسبغ عليهم شآبيب الرحمات.
اللهم فرِّج عنهم ما هم فيه من الضيق والكربات، وخص بذلك الآباء، والأمهات، والإخوان، والأخوات، والأبناء، والبنات، يا فاطر الأرض والسماوات.
اللهم من لهم وقد صاروا في الغربة والوحشة؟!
اللهم من يرحم ضعفهم؟! ومن يجبر كسرهم سواك؟!
اللهم ارحم في ظلمة القبور وحشتهم، وآمن يوم المشاهد روعتنا وروعتهم.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين!
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].




...




قديم 05-04-2021, 09:54 AM
  المشاركه #5
كاتب مميز
تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 27,993
 



اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ساحل الجنوب
وش جرى اليوم واحد منزل موضوع عن محمد العريفي والثاني عن عائض القرني


مافي ناس جدد ما نبغي قداما نبغى جدد التجديد مطلوب طال عمرك



اتوقع ماحد بيزورك في هذا الموضوع الا انا


حبيت اسلم عليك وارفعلك الموضوع لعل وعسى




وعليكم السلام ... وشكرا لك .







...




قديم 05-04-2021, 10:02 AM
  المشاركه #6
عضو هوامير المميز
تاريخ التسجيل: Oct 2012
المشاركات: 1,087
 



الله يجزاك خير



قديم 05-04-2021, 10:06 AM
  المشاركه #7
كاتب مميز
تاريخ التسجيل: Jul 2017
المشاركات: 13,707
 



موضوعات مفيدة نافعه
جمع مادتها يستغرق وقتا طويلا
جزاك الله خيرا




قديم 05-04-2021, 10:36 AM
  المشاركه #8
عضو هوامير المميز
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 7,792
 



بارك الله فيك



قديم 05-04-2021, 11:23 AM
  المشاركه #9
عضو موقوف
تاريخ التسجيل: Apr 2020
المشاركات: 1,162
 



موضوع مفيد ورائع .

جزاك الله خير .

هالمواضيع تجيب التكاك للذبان الدحلنجيه والعلمانيه والجاميه والمنافقين .




قديم 05-04-2021, 11:39 AM
  المشاركه #10
كاتب مميز
تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 27,993
 



علو الهمة طريقك إلى القمة –

القسم العلمي بمدار الوطن
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن علوَّ الهمَّة من الأخلاق الرفيعة والصفات والكريمة، والخلال الحميدة، تهفو إليه النفوس الشريفة، وتتوق إليه قلوب العظام. وهو سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب الخير، من تحلَّى به لان له كلُّ صعب، واتصف بكلِّ جميل، واستطاع أن يُحقِّق مراده وهدفه.
لَمَّا كان هذا الخلق بهذه المنزلة، ولَما كان كثيرٌ من الناس يفتقدونه؛ أحببنا أن نقف معه وقفات سريعة؛ لعلَّ الله أن ينفع بها.
وصلى الله على نبيا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


تعريف علو الهمَّة
الهمَّة:
مأخوذة من «الهم»، والهم: ما همَّ به من أمرٍ ليُفعل، والهمَّة هي الباعثة على الفعل، وتوصف بعلوٍّ وسفولٍ، فمن الناس من تكون همَّته عاليةً علوَّ السماء، ومنهم من تكون همَّته قاصرة دنيئة سافلة تهبط به إلى أسوأ الدرجات.
وعلو الهمَّة:
هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية، واستحضار ما يجود به الإنسان عند العطية، والاستخفاف بأوساط الأمور، وطلب الغايات، والتهاون بما يملكه، وبذل ما يمكنه لمن يسأله من غير امتنانٍ ولا اعتدادٍ به.
وعرَّف ابن القيم رحمه الله علو الهمَّة فقال:
«علو الهمَّة ألاّ تقف – أي النفس- دون الله، ولا تتعوَّض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظَّها من الله وقُربه والأُنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيءٍ من الحظوظ الخسيسة الفانية».
فالهمَّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإنَّ الهمَّة كلَّما علت بعدت عن وصول الآفات إليها وكلَّما نزلت قصدتها الآفات من كلِّ مكان.
تعريف دنوِّ الهمَّة
أمَّا دنوّ الهمَّة:
فهو ضعف النفس عن طلب المراتب العالية، وقصور الأمل عن بلوغ الغايات، واستكثار اليسير من الفضائل، واستعظام القليل من العطايا والاعتداد به، والرضا بأوساط الأمور وصغائرها.
وهو كذلك إيثار الدعَّة – أي الراحة – والرضا بالدون، والقعود عن معالي الأمور.
الهمَّة نوعان:
الهمَّة قسمان: وهبية وكسبية، فالوهبية هي ما وهبه الله تعالى للعبد من علوِّ الهمَّة أو سفولها، ويمكن أن تُنمي وتُرعى أو تُهمل وتُترك، فإن نمَّاها صاحبها وعلا بها صارت كسبية، وإن تركها وأهملها ولم يلتفت إليها خبت وتضاءلت، وهي في هذا مثل الذكاء وقوَّة الذاكرة وحُسن الخلق وغير ذلك ممَّا هو معلوم.
والهمَّة مولودة مع الآدمي، يقول ابن الجوزي:
«وقد عرف بالدليل أنَّ الهمَّة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسلِ المنعم، أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيرًا إلاَّ بطاعته، ولن يفوتك خيرٌ إلا بمعصيته، فمن الذي أقبل عليه ولم يرَ كلَّ مراد؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة أو حظي بغرضٍ من أغراضه».
أصناف الناس في شأن الهمَّة
يتفاوت الناس في هِمَمهم، فمنهم من تسمو همَّته، ومنهم من تدنو همَّته، ومنهم من هو بين بين .. ويمكن تقسيم الناس في شأن الهمَّة إلى أربعة أصناف:
الأول- صنف يشعرون أنَّ لديهم قُدرة على عظائم الأمور، ولديهم أهدافًا ومطالب سامية، وعندهم همَّة عظيمة جعلوها في تحصيل هذه المطالب والأهداف، وهذا الصنف من يُسمَّون «عظيمي الهمَّة».
والثاني- صنفٌ لديهم قُدرة على عظائم الأمور، ولكنهم يبخسون نفوسهم فيضعون همَّتهم في سفاسف الأمور وصغائرها ودنياها، وهذا الصنف من يُسمَّون «صغيري الهمَّة».
والثالث- صنف ليس لديه قدرة على معالي الأمور وعظائمها، ويشعر أنه لا يستطيعها وأنه لم يُخلق لها، فيجعل همَّته وسعيه على قدر استعداده، وهذا الصنف بصيرٌ بنفسه، متواضعٌ في سيرته.
والرابع- صنف لا يقدر على عظائم الأمور، ولكنه يتظاهر بأنه قويٌّ عليها، مخلوق لها، وهذا الصنف يُسمُّونه «فخورًا» وإن شئت فسمِّه «متعظمًا».
قالوا عن الهمَّة
1- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تصغرنَّ همّتكم؛ فإني لم أرَ أقعدَ عن المكرمات من صغر الهمم».
2- وقال ممشاد الدينوري: «همَّتك فاحفظها، فإنَّ الهمَّة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همَّته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال».
3- وقال ابن حبَّان البستي: من لم يكن له همَّة إلاَّ بطنه وفرجه عُدَّ من البهائم، والهمَّة النبيلة تبلغ صاحبها الرتبة العالية.
4- وقال الإمام مالك رحمه الله: «عليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتقِ رذائلها وما سفَّ منها، فإنَّ الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها».
5- وقال أحمد الدرعي: «كن رَجُلاً رِجله في الثرى وهمُّه في الثريا، وما افترقت الناس إلاَّ في الهمم، من علت همَّته علت رُتبته، ولا يكون أحدٌ إلا فيما رضيت له همَّته».
6- وقال عبد القادر الجيلاني لغلامه: «يا غلام لا يكن همُّك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كلُّ هذا همُّ النفس والطبع، فأين هم القلب؟.. همُّك ما أهمَّك، فليكن همُّك ربك عز وجل وما عنده».
7- وقال ابن القيم رحمه الله: «النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلاَّ بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار».
8- وقال أيضًا: «من علت همَّته وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ جميل، ومن دنت همَّته وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خُلق رذيل».
9- وقال أيضًا: «لذَّة كلِّ أحد على حسب قدره وهمَّته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسًا وأعلاهم همَّةً، وأرفعهم قدرًا من لذَّتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، والتودُّد إليه بما يحبه ويرضاه».
اهتمام الإسلام بخلق علوّ الهمَّة
اهتمَّ الإسلام بعلوِّ الهمَّة وحضَّ عليه، وحثَّ المسلمين على التحلِّي بهذا الخلق الطيب، ووجَّههم إلى طريق اكتسابه، وحرص على تربيتهم عليه وتنوعت الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، وكثرت مظاهر اهتمام الإسلام به، ويمكن توضيح ذلك في النقاط الآتية:
1- إنَّ القرآن قرن بين الإيمان والعمل كما في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3] والعمل هو الظاهرة المادية لعلوِّ الهمَّة في النفس؛ لأنه هو التحرُّك الجاد الذي تُبذل فيه الطاقات لتحصيل أيِّ غاية من الغايات.
2- إنَّ الإسلام حثَّ على ترقية غايات المسلمين، وهذا إعلاء لهممهم وارتفاع بها عن الدنايا، وأخذ بها إلى معالي الأمور.
3- إنَّ الإسلام وجَّه المسلمين لكسب أرزاقهم عن طريق الكدح والعمل والمشي في مناكب الأرض حتى يعفَّ الإنسان نفسه ويستغني عن غيره، ووجَّههم في المقابل إلى الترفُّع عن مسألة الناس ما لم تدع الضرورة إلى ذلك، وعرَّفهم أنَّ اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى .. قال – صلى الله عليه وسلم -: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي الجبل، فيجيء بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها يكفَّ الله بها وجهه خيرٌ من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»([1]) .
4- ومنها أنه حثَّ المسلمين على التنافس في فعل الخيرات، والتسابق إلى معالي الأمور ورفيع المنازل، وعودهم على الجد في العمل والقيام به بهمَّة ونشاط .. قال تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ [الحديد: 21]
وقال سبحانه: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].
5- ومنها أنه أمر المسلمين بالجهاد ورغَّبهم فيه أيما ترغيب، والجهاد أقصى مراتب العمل الجاد .. قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً …﴾ [النساء: 95].
6- ومنها أنَّ الإسلام ذم التواني والكسل، وأمر بالبعد عن الهزل واللهو واللعب، ونأى بأتباعه عن كلِّ أمرٍ لا فائدةً تُرجى من ورائه، وأمرهم بالبعد عن سفاسف الأمور والترفُّع عن الدنايا والمحقِّرات والزهد بالدنيا طلبًا لِما هو أجلَّ وأعظم وأبقى وأخلد، ألا وهو النعيم المقيم في جنات النعيم.
7- ومنها أنَّ الإسلام وضع المسلمين في موضع قيادة البشرية، وحملهم تبعات هذه القيادة، وفي هذا غرس لخلق علو الهمَّة في نفوسهم، وحفز شديد لهم حتى يتحلوا بكل ظواهرها من اختراق الصعاب وتحمل المشاق.
8- ومنها أنَّ الإسلام وجَّه المسلمين للدعاء، والدعاء بابٌ عظيمٌ من أبواب علوِّ الهمَّة، فبه تكبر النفس وتشرف وتعلو الهمَّة وتتسامى، وذلك أنَّ الداعي يأوي إلى رُكن شديد ينزل به جميع حاجاته، ويستعين به في كافة أموره.
9- ومنها أنَّ الإسلام حثَّ المسلمين على خُلق الحياء، لأنه مظهر من أعظم مظاهر علوِّ الهمَّة، وسببٌ عظيم لاكتسابها، وذلك لأنه يدفع المرء للتحلِّي بكلِّ جميلٍ محبوب، والتخلِّي عن كلِّ قبيح مكروه.
10- ومنها – بل ومن أغربها – ما جاء في قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله يُحب العُطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم فحمد الله فحقَّ على كلِّ مسلم سمعه أن يشمته، أمَّا التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليردَّه ما استطاع، فإنَّ أحدكم إذا قال “ها” ضحك منه الشيطان»([2]) .
فالعطاس الذي لا يكون عن مرضٍ هزَّة عصبية موقظة للنشاط والعمل، وهو من علوِّ الهمَّة، بخلاف التثاؤب الذي هو ظاهرةٌ من ظواهر الفتور والكسل وميل الأعصاب إلى الاسترخاء والخلود إلى الراحة وعزوف النفس عن العمل والحركة، وكل ذلك من ضعف الهمَّة، ولذلك جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – التثاؤب من الشيطان، أي مما يرضي الشيطان.
ولَمَّا كان العطاس باعثًا على اليقظة والنشاط كان حقًّا على العاطس أن يحمد الله، لأنَّ العطاس نعمة.
ولَمَّا كان التثاؤب دليلٌ على الكسل والفتور وضعف الهمَّة كان من الأدب أن يردَّه المسلم عن نفسه ما استطاع.
وبالجملة:
فالإسلام أخي الحبيب دين العزة والكرامة, ودين السمو والارتفاع, ودين الجد والاجتهاد, ليس دين كسل وخمول وذلة ومسكنة, حث على علو الهمة ودعا إليه, وتنوعت مظاهر اهتمامه به كما رأيت.
ذم دنوِّ الهمَّة
في مقابل حث الإسلام على علو الهمة وتوجيه المسلمين إلى اكتسابه نجده أيضا ذم دنو الهمة وحذرهم منه, وبين لهم أنه مسلك دنيء وخلق ساقط وعمل مرذول, لا يليق بأهل الفضل, ولا ينبغي من أهل النبل والعقل, وتنوعت أيضا أساليب القرآن في التحذير من هذا الخلق .
فمنها: أنه ذم ساقطي الهمة وصورهم في أبشع صورة, قال تعالى: ) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ( [الأعراف: 175, 176] .
ومنها أنه ذم المنافقين عن الجهاد لسقوط همتهم وقناعتهم بالدون , فقال في شأنهم: ) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ( [التوبة: 87] .
وقال:) ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ( [التوبة: 46] .
ومنها أنه شنع على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة , ويجعلونها أكبر همهم وغاية علمهم, واعتبر هذا الإيثار من أسوأ مظاهر خسة الهمة, وأنه تسفل ونزول يترفع عنه المؤمن قال تعالى: ) يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ( [التوبة: 38] .
ومنها أنه وصف اليهود الذين علموا فلم يعملوا بعلمهم , وشبههم بالحمار, فقال تعالى: ) مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ( [الجمعة: 5]
وقال عنهم أيضًا:﴿ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ﴾ [الأنعام: 91] .
مظاهر دنو الهمَّة
لدنو الهمَّة:
في حياتنا مظاهر عديدة ، وصور كثيرة منها:
1- التكاسل عن أداء العبادات:
فضعيف الهمة يؤدي الصلاة بتثاقل وتباطؤ وقلة رغبة حاله كحال المنافقين الذين لا يقومون إلى الصلاة إلا وهم كسالى كما وصفهم ربهم عز وجل بقوله 🙂 وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ( [النساء: 142]
كما أنه يتكاسل عن قيام الليل و صلاة الوتر وأداء السنن وبخاصة إذا فاتته.
2- التهرب من المسئولية:
وهذا له صور كثيرة, منها التخاذل وذلك بكثرة الاعتذارات والاحتجاج بكثرة المشاغل, ومنها التخذيل, حيث لا يكتفي ضعيف الهمة بالتهرب, وإنما يثبط من أراد البذل والعمل, ومنها التهوين وذلك بتهوين الأمور أكثر من اللازم, وعكسه التهويل وهو تعسير الأمور وتهويلها, وكل هذه الأمور دليلٌ على دنوِّ همَّة الشخص ورغبته في إيثار السلامة والتهرُّب من المسئولية.
3- الإغراق في المظهرية الجوفاء:
حيث يشغل ضعيف الهمَّة نفسه بالمظاهر الفارغة فيعتني بالملبس والمركب العناية الزائدة ، ويهتم اهتمامًا كبيلاسا
4- الاشتغال بما لا يعني والانصراف عما يعني:
فضعيف الهمة يشغل نفسه بما لا يعنيه ويترك ما يعنيه, كأن يشغل نفسه بالقيل والقال وكثرة السؤال, والإكثار من المراء والجدال والمزاح والوقوع في الغيبة والنميمة فيضيع بذلك وقته الذي هو حياته ورأس ماله.
5- الانهماك في الترف:
وهذا يورث ضعف الهمَّة ، ويشغل المرء عن طاعة ربه ، ويقود إلى الضياع ، وينافي المراتب العالية. ومِن صُور الانهماك في الترف التوسُّع في المآكل والمشارب ، وكثرة النوم والمبالغة في التجمل.
يقول الشاعر: فَمَن هَجَر اللَّذَّات نَالَ الْمُنَى ومَن *** أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى اليَدِ
6- الاشتغال بسفاسف الأمور ومحقرات الأعمال:
فضعيف الهمَّة يعيش بلا هدف ولا غاية، لا همَّ عنده و لا شغل إلاَّ العناية بمظهره والتأنُّق في ملبسه، وتلميع سيارته، ومتابعة أخبار الفنِّ والرياضة، والجلوس في الطُرقات وعلى الأرصفة وإيذاء الناس بالتفحيط والمعاكسات.
7- الاسترسال مع الأماني الكاذبة:
فضعيف الهمَّة يهوى المعالي ويعشق المكارم، ويريد النجاح، ولكنه مع ذلك لا يسعى إليها، ولا يجدُّ في طلبها، ولا يبذل أسباب تحصيلها وإنما يكتفي بالأماني الكاذبة والأحلام المعسولة.
8- ا لتسويف والتأجيل:
وهما صفة بليد الحسِّ عديم المبالاة ضعيف الهمَّة، وهما آفتان خطيرتان، لا يسلم منها إلاَّ أ صحاب الهمَّة العالية والإرادات القوية، ولهما آثار وخيمة في الدنيا والآخرة.
9- التحسُّر على ما مضى وترك العمل:
فضعيف الهمَّة يتحسر على ما مضى من تقصيره، ويسرف في ذلك إسرافًا شديدًا فيضيع بذلك حاضره ومستقبله كما ضاع ماضيه، ويأتيه الموت وقد ضاع عمره فيما لا فائدة فيه، ولا طائل وراءه([3]) .
أسباب ضعف الهمم وانحطاطها
لضعف الهمم وانحطاطها ودنوِّها أسباب كثيرة، نذكر منها على وجه الاختصار:
1- الوهن:
وهو كما فسره النبي – صلى الله عليه وسلم -: «حب الدنيا وكراهية الموت»([4]) .
أما حب الدنيا: فهو رأس كلِّ خطيئة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، وسبب استئثار الشهوات والانغماس في الملذَّات والتنافس على دار الغرور.
أما كراهية الموت: فثمرة حبِّ الدنيا والحرص على متاعها، مع تخريب الآخرة، وهما صنوان لا يفترقان، ووجودهما يُورث الجبن والهمَّة العالية لا تسكن القلب الجبان.
2- وجود الإنسان في بيئة أو مجتمع ساقط الهمَّة:
فالبيئة التي تحيط بالإنسان لها دورٌ كبيرٌ في علوِّ همَّته أو سفولها وانحطاطها، فقد تكون سببًا في ترقيه وسموِّ همَّته وتشجيعه على طلب المعالي والعظائم، وقد تكون سببًا في عكس ذلك كالبيئة بالنسبة للنبات، فهي، إن كانت صالحة نما النبات وترعرع وإن كانت سيئة ضعف ومات.
3- ضعف التربية المنزلية أو فسادها:
وهذا السبب أخصُّ من سابقه، وذلك لأنَّ البيت هو المدرسة الأولى التي يتربَّى فيها الولد قبل أن تُربِّيه المدرسة أو البيئة وهو مدينٌ لوالديه في سُلوكه المستقيم/ كما أنهما مسئولان عن فساده وانحرافه .. والبيت الذي يُربَّى أولاده على الميوعة والترف والإسراف والخوف والجبن والهلع والفزع لا يمكن أن ينشأ أولاده على علوِّ الهمَّة، أو يتربَّوا على معالي الأمور، والعكس صحيح.
4- الاستجابة للصوارف الأسرية:
من زوجة وأولاد، و استغراق الجهد في التوسُّع في تحقيق مطالبهم، فالزوجة والأولاد قد يكونون فتنةً للرجل حيث يصدُّونه عن العبادة وعن طلب العلم والسعي إلى المعالي ويثنونه عن مراده، وذلك بسبب كثرة طلباتهم وتخذيلهم له، ولهذا قال ربنا عز وجل: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: 28].
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: 14].
5- الكسل والفتور:
وهما عائقان خطيران، ولا بدَّ للمرء من البعد عنهما لأنهما قاتلان للهمَّة مُذهِبان لها، وقد قيل: «ما لزم أحد الدعَّة إلا ذلَّ، وحُب الهوينى يُكسب الذل، وحب الكفاية أي الاكتفاء بما عليه وعدم الرغبة في الارتقاء- مفتاح العجز».
6- صحبة البطالين ومرافقة ساقطي الهمَّة:
الذين كلما هم الإنسان جذبوه إليهم وقالوا له: «أمامك ليلٌ طويلُ فارقُد» والطبع يسرق منهم، والمرء يتأثر بعادات وأخلاق جليسه، وصُحبة هؤلاء تعُوق المرء عن همَّته، وتُثنيه عن عزيمته، وتحول بينه وبين طلب المعالي، وقد قيل:
ولا تجلس إلى أهل الدنايا***فإنَّ خلائق السفهاء تُعدي
7- كثرة الزيارات للأقارب والأصحاب:
وإهدار الوقت في فضول المباحات، وفيما لا يعود بمنفعة أو فائدة في الدنيا والآخرة، فهذا مما يصرف الإنسان عن طلب المعالي، ويؤدِّي إلى ضياع عمره، وصدق من قال: «إذا طال المجلس صار للشيطان فيه نصيب».
8- متابعة وسائل الإعلام الهابطة:
التي تُثبط الهمم وتخنق المواهب وتُكبت الطاقات وتخرب العقول، وتزرع في الناس ازدرَاء النفس، وتعمق فيهم احتقار الذات والشعور بالدونية، وتقود الناس إلى الهاوية، وتقتل المروءة والرجولة، وتؤدِّي إلى انحطاط الهمم ودنوِّها.
9- الانحراف في فهم العقيدة:
وخاصة مسألة القضاء والقدر، وعدم تحقيق التوكُّل على الله حق توكُّله، وعدم الأخذ بالأسباب، فهذه من أعظم مُثبطات الهمم ومضعفات العزائم، وقاتلات لكلِّ حماسٍ وتطلُّع إلى العلو، ومبدلات للعزِّ بالذل، والعلم بالجهل، والنشاط بالبطالة، والتقدُّم بالانحدار والسقوط.
10- ملاحظة الناس وتقليدهم تقليدًا أعمى:
ولا شكَّ أن أكثر الخلق مفرطون، وهم في الغفلة غارقون، وهم صوارف عن الهمَّة العلية، يقول ابن القيم رحمه الله: «فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه، فنظره قاصر، وهمَّته واقفة عند التشبه بهم وتقليدهم، والسلوك أين يسلكون حتى لو ليدخلوا جحر ضب لأحب أن يدخل معهم».
11- العشق:
لأنَّ صاحبه يحصر همَّته في حصول معشوقه، فيلهيه ذلك عن حبِّ الله ورسوله، كما أنَّ العشق يمنع القرار، ويسلب المنام، ويحدث الجنون، ويتلف الدين والدنيا، والمال والعرض والنفس، ويصير الملك عبدًا فهو من أقوى أسباب ضعف الهمم وانحطاطها.
12- الإعجاب بالنفس والاستبداد بالرأي:
وهذا آية الجهل، ودليل السفه ونقص العقل، يمنع المرء من الاستفادة من عقول الآخرين والاستنارة بآرائهم وتجاربهم والعكس صحيح، فالمبالغة في احتقار النفس تقتل الطموح، وتُفقِد الإنسان الثقة بنفسه، واستشارة من ليس أهلاً لها تورد المهالك، وتُثنِي عن المعالي.
13- التردُّد المذموم والاندفاع الزائد:وكلاهما مذمومٌ حيث يؤدِّيان إلى ضعف العزيمة وموت الهمَّة وصدق من قال:
إذَا كُنتَ ذَا رَ أيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ ذ ***فَإنَّ فسَادَ الرَّأيِ أنْ تَتَرَدَّدَا
14- الحسد والطمع والجشع:
وكلُّها من موجبات سقوط الهمَّة، وسقوط الجاه والمنزلة، فالحاسد والطمَّاع والجشع لا تعلو لهم مكانة، ولا ترتفع لهم منزلة، لأنهم دنيئي الهمَّة مُهيني النفس.
15- الذنوب والمعاصي:
وهذا السبب جامعٌ لكلِّ ما مضى، والذنوب تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مُهيَّئًا لأن يكون من العليَّة، وتورث الذُل، وتُفسِد العقل، وتُذهِب الحياء، وتُصغِّر النفس، وتُنسِي العبد نفسه، وكلُّ هذه الأمور من أسباب دنوِّ الهمم وانحطاطها.
أسباب الارتقاء بالهمَّة
هناك أسباب كثيرة ووسائل متعدِّدة للارتقاء بالهمَّة، وهي في الحقيقة الوجه الآخر لأسباب انحطاط الهمَّة .. وفيما يلي جُملة منها:
1- التربية الصحيحة من قبل الوالدين:
فإنَّ الولد الذي يحرص والداه على تربيته على الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة، والخلال الكريمة مع إبعاده عن مساوئ الأخلاق ومرذول الفعال سيشبُّ بإذن الله عالي الهمَّة، محبًّا لمعالي الأمور، متصفًا بمكارم الأخلاق، كارهًا لسفاسف الأمور.
ومن أراد أن يعرف أثر الوالدين في نفوس الأولاد فليتتبع حال سلفنا الصالح الذين خرَّجوا لنا أفضل الأجيال، وقدَّموا لنا أ عظم الأبطال، فمن كان وراء عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد وعبد الله بن الزبير؟ ومن الذي صنع البخاري وابن تيمية وابن القيم وغيرهم؟ إنهم الآباء العظماء والأمهات الفضليات.
2- وجود المربين الأفذاذ والمعلمين القدوة:
الذين يتَّصفون بعلوِّ الهمَّة وحُسن الخلق، ويستشعرون عظم المسئولية وضخامة الأمانة، ويحرصون على بثِّ رُوح التنافس بين طلابهم، وتربيتهم على طلب المعالي والترفُّع عن الدنايا وعزَّة النفس وقوة العزيمة، ويؤثِّرون فيهم بالفعل قبل القول.
3- العلم والبصيرة:
فالعلم يصعد بالهمَّة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، ويورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال؛ فيتَّقي فضول المباحات التي تشغله عن التعبُّد، ويبصره بحِيَل إبليس وتلبيسه عليه كي يحول بينه وبين ما خُلق له، ويحثُّ على طلب المعالي والترفع عن الدنايا.
4- مجاهدة النفس ومحاسبتها:
فبدون ذلك لا يتحقَّق شيء ولا يخطو المرء خطوة للإمام ولهذا قال ربنا عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]
ولا شكَّ أنَّ مجاهدة النفس وحرمانها من بعض ملذَّاتها ورغباتها وعوائدها، وإلزامها بأعمال تحتاج جهدًا ومشقَّة، ومحاسبتها على التقصير، وأخذها بالجدِّ والحزم، لا شكَّ أنَّ هذا يقوِّي الإرادة، ويبعث على العزيمة يقول الشاعر:وفي قَمع أهوَاء النفُوسِ اعتزَازُها***وفي نَيلهَا مَا تَشتهي ذُلٌّ سَرمدُ
5- إرادة الآخرة وجعل الهموم همًّا واحدًا:
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19]
وقال – صلى الله عليه وسلم -: «من كانت الآخرة همه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له»([5]) .
6- تذكُّر الموت وقصر الأمل:
فهذا يُوقظ الهمَّة، ويبعث الجد والاجتهاد، ويدفع إلى العمل للآخرة، والتجافي عن دار الغرور وتجديد التوبة وإيقاظ العزم على الاستقامة .. يقول ابن القيم رحمه الله:
«صدق التأهُّب للقاء الله- ومنه تذكر الموت والاستعداد له- من أنفع ما يكون للعبد وأبلغه في حصول استقامته، فإنَّ من استعدَّ للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله وعكفت همَّته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته واستحدثت همَّة أخرى وعلومًا أخر، وولد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمِّه.. أ.هـ.
7- الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله:
فهو المسئول وحده أن يقوِّي إرادتنا، ويعلي همَّتنا ويرفع درجاتنا .. وبالدعاء تشرف النفس وتعلو الهمَّة، ولهذا كان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أعنِّي على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك»([6]) .
8- قراءة القرآن الكريم وتدبره:
فهو يهدي للتي هي أقوم، ويدفع إلى الكمالات، ويحثُّ على الفضائل، ويدعو إلى كلِّ جميل، وهو الذي يرهف العزائم ويعلي الهمم، ويقوي ا لإرادات، ويحفز النفوس على العمل النافع والسعي المثمر، ويطهر النفوس من الدنايا، وينأى بها عن محقرات الأعمال وسفاسف الأمور، وهو الذي جعل من رعاة الغنم قادة الأمم فنشروا العدل، وقضوا على الظلم، وفجَّروا العلم والحكمة تفجيرًا.
9- التحوُّل عن البيئة المثبطة للهمم:
فعلى المرء أن يهجر البيئة التي تدعوه إلى الكسل والخمول وإيثار الدون حتى تعلو همَّته، وتتحرر من سلطان تأثيرها، وتنعم بفرصة الترقِّي إلى المطالب العالية حيث يجتمع قلبه، ويلتئم شمله، وتتوحد همَّته، وتتوجه بصدق وعزم نحو المعالي.
10- مصاحبة أولي الهمم العالية:
وهذا السبب أخصُّ من سابقه، وهو من أ عظم ما يبعث الهمَّة ويربي الأخلاق الرفيعة في النفس، وذلك لأنَّ كلَّ قرين بالمقارن يقتدي، والمرء بمحاكاة من حوله، شديد التأثر بمن يصاحبه، مجبول على الغيرة والتنافس ومزاحمة الآخرين.
ووجود الصاحب، الذي يجري بك نحو معالي الأمور، ولا يتوانى في تقديم ما يمنحك التوفيق، ويعتبر نجاحك نجاحًا شخصيًا له، مهم في وصولك إلى القمة وبلوغ المعالي. وهذا يفسر لنا قول ابن مسعود رضي الله عنه: «اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب الرجل من هو مثله».
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ما أعطي ع بد بعد الإسلام خيرًا من أخ صالح فإذا رأى أحدكم ودًّا من أخيه فليتمسك به».
أنتَ في النَّاس تُقَاس*** بالذي اختَرت خَلِيلا
فاصْحَب الأخيَار تَعلو*** وتَنل ذِكرًا جَميلا
صُحبة الخَامِل تكسُو*** من يُؤاخِيه خُمُولا
وإذا أردت أن تعرف أثر الصحبة العالية الهمَّة في التسابق إلى الخيرات، فتأمَّل ما قاله محمد بن علي السلمي رحمه الله: «قمت ليلة سحرًا لآخذ النوبة على ابن الأخرم، فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئًا، ولم تدركني النوبة إلى العصر».
11- إدامة النظر في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم -:
فهو أقوى الناس عزيمةً وأعظمهم إرادةً وأعلاهم همَّة، وحياته – صلى الله عليه وسلم – مليئة بالمواقف والأحداث التي تبعث علوَّ الهمَّة وتوقظ العزيمة.
يقول ابن حزم رحمه الله: «من أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها؛ فليقتدِ بمحمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه».
12- مطالعة أخبار السلف وقراءة سيرهم:
والنظر في تراجمهم وما كانوا عليه من الجدِّ والنشاط، يقول ابن الجوزي رحمه الله: «فسبيل طالب الكمال الاطلاع على الكتب.. فإنه يرى من علوم القوم وعلوِّ هممهم، ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد»..
ثم يقول: «وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كُتبهم رُؤية لهم».
ثم يُبين ثمرة ذلك فيقول: «.. فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع».
13- اعتراف الشخص بقصور همَّته وأنه لا بد له أن يطورها ويعلو بها:
وهذا أمرٌ لا بدَّ منه، فمن لم يعترف بقصور همَّته لا يمكن أن يحاول في تطويرها والارتقاء بها، ثم لا بدَّ أن يعتقد أنه قادرٌ على أن يكون من أهل الهمَّة العالية، وبدون هذين الأمرين لا يمكن أن يتقدَّم المرء أو يخطو خطوات صحيحة.
14- الحرص على تحصيل الكمالات والتشويق إلى المعرفة:
فمن استوى عنده العلم والجهل، أو كان قانعًا بحاله وما هو عليه؛ لم ترتقِ همَّته ولم يحرص على علوِّها والارتقاء بها إلى الأفضل، يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «إن نفسي تواقة، وإنها لم تُعط من الدنيا شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلما أُعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا؛ تاقت إلى ما هو أفضل منه .. يعني الجنة».
ويقول ابن حجر رحمه الله واصفًا حال الإمام جلال الدين البلقيني: «ما رأيت أحدًا ممَّن لقيته أحرص على تحصيل الفائدة منه، بحيث إنه كان إذا طرق سمعه شيء لم يكن يعرفه لا يقر ولا يهدأ ولا ينام حتى يقف عليه ويحفظه، وهو على هذا مكبٌّ على الاشتغال، محبٌّ للعلم حقّ المحبة» اهـ.
15- تحديد الأهداف ومراعاة الأولويات والإعداد الجيد للوصول إليها:
وذلك لأنَّ الإنسان إذا لم يحدِّد الأهداف التي يريد تحقيقها ولم يقدم ما حقُّه التقديم، ولم يرسم لنفسه طُرقًا للوصول إلى هذه الأهداف، إذا لم يفعل ذلك سيصاب بالملل والرتابة والكسل، وكلُّها أشياء مثبطة للهمم مضعفة لها.
16- البعد عن الترف والنعيم:
وذلك لأنَّ الانغماس في النعيم والتقلُّب في الترف، والانهماك في اللذات يشغل الإنسان عن طلب المعالي، ويسد عليه طريق المجد، ويورث ضعف الهمَّة وحقارة الشأن، والعكس صحيح، فالبعد عن الترف والتجافي عن النعيم يعين على بلوغ العز واكتساب الهمَّة العالية والطموح إلى معالي الأمور.
17- النظر إلى من هو أعلى في الفضائل، وإلى ما هو أسفل في أمور الدنيا:
فهذا من وسائل اكتساب الهمَّة العالية والنهوض إلى طلب معالي الأمور، وقد قيل: «إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال، ولكن انظر إلى من فوقك من العلماء».
وذلك لأنَّ الإنسان إذا نظر إلى من هو أعلى منه في الفضائل دفعه ذلك إلى اقتنائها واجتهد في طلبها، ولم يرض من المناقب إلاَّ بأعلاها ولم يقف عند فضيلة إلاَّ وطلب الزيادة فيها.
18- استشعار المسئولية:
وهذا مما يبعث الهمَّة ويقوِّيها ويقود إلى التنافس في الخيرات، ويجعل الإنسان يبذل كلَّ ما في وسعه ومقدوره، وينهض بالواجبات من غير تردُّد أو إحجام، ولا يختلق الأعذار للتهرب من المسئولية، قال – صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»([7]).
19- التنافس والتنازع بين الشخص وهمَّته:
فعلى من يريد أن يرتقي بهمَّته ويطوِّرها أن يكلِّف نفسه بأعمال جديدة غير التي اعتادها، وهذا بدوره يخلق نوعًا من التحدِّي بداخله لإنجاز هذه الأعمال الجديدة، كما أنه بهذا العمل استثار همَّته وحرك إرادته نحو مزيد من الأعمال، ودفع عن نفسه الملل واليأس اللذين قد يُصاب بهما نتيجة تكرار الأعمال اليومية.
20- ا نتهاز الفرص التي تعرض عليك:
فإنَّ الفرص ثمينة، وفواتها لا يعوض، وانتهازها دليل على الجد والحزم، ووسيلة لتحسين الأخلاق وتقويتها والتي منها علو الهمَّة يقول الشاعر:
بَادِرِ الفُرْصَةَ وَاحْذَرْ فَوتَهَا*** فَبُلُوغُ العِزِّ فِي نَيْلِ الفُرص
21- اغتنام الأوقات:
فإنَّ الوقت هو رأس مال الإنسان، وضياعه ضياع للإنسان، وحفظه واستثماره في المفيد النافع من أعظم الحفظ وأحسن الاستثمار فإن كنت حريصًا أخي ا لمسلم على أن يكون لك مجدٌ فدعِ الراحة جانبًا، واجعل بينك وبين اللهو واللعب حاجبًا، فالعاقل من يقدِّر قيمة وقته حقَّ قدره، ولا يتخذه وعاء لأبخس الأشياء، فالأنفاس معدودة، والوقت محدود، وما فات من الزمن لا يعود.
22- التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب:
فتوجَّه القلب إلى الله تعالى واستمداد العون منه والاعتماد عليه وحده والقيام بالأسباب المأمور بها حال العمل، سبب في حصول المراد ودفع المكروه، ولا يكفي أحدهما، بل لا بد منهما معًا، وهذا هو التوكل الحقيقي على الله، وما بذل أحد جهده، وسعى في الأمور النافعة، واستعان بالله، وأتى الأمور من أبوابها؛ إلاَّ وأدرك مقصوده، وحقَّق مناه كلَّه أو بعضه.
23- السلامة من الغرور ومن المبالغة في احتقار النفس:
وذلك لأنَّ الغرور واحتقار النفس من أعظم أسباب سقوط الهمَّة ودنوِّها، كما أنَّ السلامة منهما من أعظم علو الهمَّة وقوَّة الإرادة، أمَّا الغرور فلأنَّ صاحبه يحتقر كلَّ من عداه، ويترفَّع عن الإصغاء للنصيحة والاستماع إلى آراء الآخرين ويستبد برأيه، ولا يستفيد من تجارب غيره، وأمَّا احتقار النفس فلأنه يحطم النفس ويسلب الإرادة ويفقد الأمل ويقلل الثقة بالنفس ويساعده على الكسل والخمول.
24- الابتعاد عن كلِّ ما من شأنه الهبوط بالهمَّة وتضييعها:
وقد ذكرنا جُملة من الأسباب التي تؤدِّي إلى انحطاط الهمَّة ودنوِّها، ولا شك أن تلافي هذه الأسباب والابتعاد عنها والعمل على إيجاد عكسها، هو أنجع الأدوية وأقواها.
25- تقوى الله تعالى وطاعته:
وهذا السبب جامعٌ لكلِّ ما مضى، فتقوى الله هي العدَّة في الشدائد والعون في الملمَّات، وهي مبعث القوة ومعراج السموِّ إلى السماء، وهي التي تُثبِّت الأقدام في المزالق، وتربط القلوب في الفتن، وتقذف النفس نحو معالي الأمور وتورث الطمأنينة والسكينة.
نماذج للهمَّة العالية من حياة السلف
لم تخل حياة سلفنا من نماذج عظيمة وقمم عالية في شتى العلوم والفروع، تعلقت قلوبهم بالمعالي واشتاقت للذرى، فلم ترضَ بالدون أبدًا، وسير هؤلاء مما يبعث الهمَّة ويقدح زندها ويزكي أوارها، ويبعث في النفوس رُوح المضيِّ على آثارهم والتخلُّق بأخلاقهم.
لقد حفل تاريخنا بمواقف رائعة تشي بعلوِّ همَّة سلفنا، وتعلن عن نظرتهم العميقة إلى حقائق الأشياء، وتساميهم عن المظهرية الجوفاء، وترفعهم عن سفاسف الأمور ودنايا الأفعال، واعتزازهم بانتمائهم إلى هذا الدين .. وها هي إشارات سريعة من حياة القوم نسوقها علَّها تحرك نفوسنا للسير في طريقهم.
علو همَّة السلف في طلب العلم
يقول ابن عباس رضي الله عنه: «لما قُبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت لرجل من الأنصار: هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فإنهم اليوم كثير، فقال: وا عجبًا لك يا ابن عباس، أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من فيهم؟ قال: فتركت ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح علي من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحقُّ أن آتيك، فأسأله عن الحديث.
فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني».
وقيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب.
ويقول الرازي عن نفسه: «أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيًا ثم إلى الرملة ماشيًا، ثم إلى طرسوس، ولي عشرون سنة».
علوِّ همَّتهم في العبادة
اجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته اجتهادًا شديدًا فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟! فقال: إنَّ الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقلُّ من ذلك، قال: فلم يزل على ذلك حتى مات.
وكان أبو مسلم الخولاني قد علَّق سوطًا في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفنَّ بك زحفًا حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه، ويقول: أنت أولى بالضرب من دابتي.
وكان يقول: «أيظن أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يستأثروا به دوننا؟! كلا والله، لنزاحمهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً».
وعن حماد بن سلمة قال: «ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يُطاع الله عزَّ وجل فيها إلاَّ وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إمَّا متوضئًا، أو عائدًا، أو مشيعًا لجنازة , أو قاعدًا في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله عز وجل».
علو همَّتهم في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال شجاع بن الوليد: «كنت أخرج مع سفيان الثوري فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا».
وقال إبراهيم بن الأشعث: «كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودِّع أصحابه ذاهب إلى الآخرة..».
وكان الفقيه الواعظ أحمد الغزالي يدخل القرى والضياع، ويعظ أهل البوادي تقربًا إلى الله.
علو همَّتهم في الجهاد في سبيل الله
يقول القاضي ابن شداد عن علوِّ همَّة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله: «كان رحمه الله عنده من أ مر القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، وهو كالوالدة الثكلي يجول بنفسه من طلبٍ إلى طلب، ويحثُّ الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه، وينادي: يا للإسلام، وعيناه تذرفان بالدموع».
ونظر صلاح الدين رحمه الله إلى أمواج البحر الهادرة، ثم التفت إلى القاضي ابن شداد وقال: «أمَا أحكي لك شيئًا في نفسي؟ إنه متى يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد، ووصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائره، وأتبعتهم – أي الصليبيين- فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت».
وانظر إلى همَّة الإمام ابن حزم رحمه الله التي بلغت الآفاق إذ يقول:
مُنَاي مِن الدُنيَا عُلومٌ أبثُّها*** وَأَنشُرُهَا فِي كُلِّ بَادٍ وَحَاضِر
دُعَاء إلى القُرآن والسُنَن الَّتي*** تَنَاسَى رِجالٌ ذِكرَها في المحاضِرِ
وَألزم أَطرَافَ الثُغُورِ مُجَاهِدًا*** إذا هَيعَةٌ ثَارَت فَأَوَّل نَافِرِ
لأَلقَى حِمَامي مُقبلاً غَير مُدبِرٍ*** بسُمرِ العَوالِي وَالدقَاقِ البوَاتِرِ
كفَاحًا مَع الكفّار في حَومةِ الوَغَى*** وَأكرَمُ مَوتٍ لِلفَتَى قَتلُ كَافِرِ
فيَا رَبُّ لا تَجعَل حِمَامي بغَيرِهَا*** وَلا تَجعَلنِي مِن قَطِين المقَابِر
ثمرات علو الهمَّة
لعلو الهمَّة أخي الحبيب ثمرات كثيرة منها:
1- علو الهمَّة سبب للحصول على الحياة الطيبة؛ لأنَّ الحياة الطيبة لا تُنال إلاَّ بالهمَّة العالية والمحبة الصادقة والإرادة الخالصة، وعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخس الناس حياة أخسهم همَّة، وأضعفهم محبة وطلبًا، وحياة البهائم خير من حياته كما قيل:
نهَارُك يَا مغرُورُ سَهوٌ وَغفْلَةٌ*** وليلُك نَومٌ والرَّدَى لَكَ لازِمُ
وَتكدَحُ فِيمَا سَوفَ تُنكِر غِبّه*** كذَلِك في الدُنيَا تَعيشُ البهَائِمُ
تسرُّ بِما يفَنَى وتَفرَحُ بِالْمُنى*** كما غَرَّ باللذَّات في النَّوم حَالِمُ
2– علو الهمَّة يجلب لصاحب خيرًا غير مجذوذ، ويجري في عروقه دم الشهامة، والركض في ميدان العلم والعمل، فلا يُرى واقفًا إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطًا يده إلا لمهمات الأمور.
3- علو الهمَّة يسلب منك سفاسف ا لآمال والأعمال، ويجتث منك شجرة الذل والهوان، ولا يجعلك ترضى الدون، ولا تقنع بالسفاسف.
4- علو الهمَّة يحقق لك كثيرًا من الأمور التي يظنها عامة الناس خيالاً لا يتحقَّق، وهذا أمر مشاهد ومعروف عند أهل الهمم؛ إذ يستطيعون إنجاز كثير من الأعمال بإذن الله، التي يظنها ضعفاء الهمَّة خيالاً.
5- علو الهمَّة سبب للوصول إلى المراتب العالية في العبادة والزهد، والأمثلة على ذلك من حياة السلف كثيرة.
6- علو الهمَّة ترفع القوم من السقوط، وتبدلهم بالخمول نباهة، وبالحطة رفعة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية.
7- علو الهمَّة تجعل الإنسان يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته وتحقيق بغيته؛ لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللذات لا تنال إلا بحظ من المشقة ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب.
8- علو الهمَّة تجعل صاحبها قدوة في مجتمعه، ينظر إليه الكسالى والقاعدون فيقتدون بهمَّته، وتناط به الأمور الصعبة وتوكل إليه.
وفي الختام: نسأل الله تعالى أن يرزقنا همَّة عالية، وعزيمة قوية، إنه ولي ذلك و القادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. منقول عن موقع إسلام هاوس
———————————
( [1] ) رواه البخاري.
( [2] ) رواه البخاري.
( [3] ) باختصار من كتاب الهمَّة العالية للشيخ محمد الحمد.
( [4] ) رواه أحمد وصححه الألباني.
( [5] ) رواه الترمذي وصححه الألباني.
( [6] ) رواه أبو داود وصححه النووي.
( [7] ) متفق عليه.





......




قديم 05-04-2021, 05:46 PM
  المشاركه #11
كاتب مميز
تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 27,993
 



اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابي دجانه
الله يجزاك خير


بارك الله فيك .




...




قديم 06-04-2021, 12:07 AM
  المشاركه #12
كاتب مميز
تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 27,993
 



اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة احمدوه
موضوعات مفيدة نافعه
جمع مادتها يستغرق وقتا طويلا
جزاك الله خيرا


بارك الله فيك .. ومشكور على المشاركة والتشجيع .





...







الكلمات الدلالية (Tags)

محاضرات

,

مكتوبة

,

ومواعظ

,

وخطب




تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



08:30 AM