آهاً على بغدادها وعراقها
و ظبائها والسحر في أحداقها
و مجالها عند الاصيل بأوجه
تبدو اهلتها على اطواقها
و متبخرات في النعيم كأنما
خلق الهوى العذري من أخلاقها
نفسي الفداء لها فأي محاسن
في الدهر تشرق من سنا اشراقها
و هنا لو تأملنا ملياً في هذه الابيات أعلاه لرأينا مدى الاسى وفداحة الألم اللذين غمرا الشاعر نتيجة فراقه بغداد ولكن ابن زريق البغدادي هو الآخر علامة بارزة لاحزان المتغرب المفارق لهذه المدينة البهية التي ثبت ذكرها في خلد أي من وافديها والمستظلين بنعيمها ويكفي هنا أن نذكر ابن زريق البغدادي الذي لم يكتب سوى قصيدة واحدة في حياته في بغداد اثر فراقه لها حتى عد من (شعراء الواحدة) وهم الشعراء الذين لم يكتبوا أو لم يشتهروا سوى بقصيدة واحدة حتى أن الكثير من المراجع والمصادر التي تتبعت سيرة هذا الشاعر الموله بمدينة بغداد أجمعت على أن المتأمل في قصيدة ابن زريق البغدادي لابد له من أن يكتشف على الفور رقة التعبيرفيها وصدق العاطفة وحرارة التجربة فهي تنم عن أصالة شاعر مطبوع له لغته الشعرية المتفردة وخياله الشعري الوثاب وصياغته البليغة المرهفة ونفسه الشعري الممتد و الغريب بالامر من أن هذه المصادر المختلفة تضيف أيضاً من أن لا يكون لابن زريق غير هذه القصيدة وهكذا استحق هذا الشاعر فضل البقاء في ذاكرة الشعر العربي كله بقصيدة واحدة ، وبالمقابل ما أكثر الشعراء الذين لاتعيهم الذاكرة بالرغم من أنهم سودوا مئات الصفحات وتركوا عشرات الدواوين وزحموا الدواوين والمكتبات بكتاباتهم الشعرية . وفي كل الحالات تظل هذه القصيدة ماثلة أمامنا بوصفها المصدر الانبل والارقى للتعبير المتحول لتجربة الشاعر المختزن لهذا القدر الهائل من مبررات عشقه لهذه المدينة ، يستهل الشاعر ابن زريق البغدادي قصيدته هذه بمخاطبة زوجته ويناشدها الا تعذله أو تلومه فقد اثر فيه اللوم وآذاه و أضَر به بدلاً من أن يخفف من لوعته فهو القائل :
لا تعذليه فان العذل يولعه
قد قلت حقاً و لكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حداً أضر به
من حيث قدرت ان اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً
من عذله فهو مضنى القلب موجعه
يكفيه من لوعة التشتيت ان له
من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر الا وأزعجه
رأي الى سفر بالعزم يزمعه
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بفضاء الله يذرعه
كما يذوب ويتلاشى الشاعر رقة ووجداً وأسى وهو يحاول أن يستذكر بغداد التي فارقها والاسف يتوزعه أي توزع ففي هذه الابيات ثمة دهشة تأخذنا اليها حساسية الشاعر اللغوية التي تجاور المعنى والتحشيد الضخم والباذخ لجمال الصور التي تتخللها لحظات حقيقية صادقة هي من أكثر ما يحس به الشاعر ضمن سياقات الغربة وتداعياتها حين تبطش به وتجعله رهين تلك اللحظات التي تتعاضد مع الالم الشديد الذي يقتحم الشاعر، ولكن الهاجس الشعري لدى شاعرنا يتدارك الحواشي ليصل في نفس الوقت إلى مقاربات فهم ذلك المعنى الشاق المتعلق بسياقات الغربة لذلك أرى أن الشاعر في قصيدته هذه مؤهل لأن يصوغ لنا قراءته الخاصة لموضوعة الغربة بطريقته الشعرية فتلك الابيات من القصيدة اعلاه والابيات التالية تفصح عن هذه الحالة بمنتهى الوضوح ، لنتأمل ما يقوله :
استودع الله في بغداد لي قمراً
في الكرخ من فلك الازار مطلعه
ودعته و بودي لو يودعني
صفو الحياة و اني لا اودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
و ادمعي مستهلات و ادمعه
لا اكذب الله ثوب الصبر منخرق
عني بفرقته لكن أرقعه
اني اوسع عذري في جنايته
بالبين عنه و جرمي لا يوسعه
رزقت ملكاً فلم أحسن سياسته
وكل من لا يسوس الملك يخلعه
إنها مرارة المعاناة اذن تلك التي تمكنت من الشاعر وهو ينأى عن مدينته بغداد فحق له إذن أن ينعي خطى الغربة التي لم تقده الا على التشتت والالم والحسرة وأخيراً اجترار الذكرى وتصعيد الندم والممارسة القسرية لموضوعة الصبر وترويضه على أن يستوعب طبيعة المحنة التي يحياها الشاعر حتى وهو يفتعل الاعذار والمبررات لما أقدم عليه خصوصاً وهو ينشد في هذه الابيات قائلاً :
بالله يا منزل العيش الذي درست
آثاره وعفت من بنت اربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله مذ أصبحت منزله
و جاء غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيعه
كما له عهد صدق لا أضيعه
لاصبرن لدهر لا يمتعني
به و لابي في حال يمتعه