مقال نُشر في صحيفة المدينة
المُعلّم يا معالي الوزير
د.عبد العزيز محمد قاسم
« لا يمكن إلاَّ أن يكون أحد أفلام الأكشن الأمريكية «.. هتفت بهذه العبارة وأنا أتفرَّس مليًّا في صورة الزميل المُعلّم عبدالله الحربي، والدم يثعب منه، ويغطي وجهه! فضلاً عن معلّم الرياضيات، الذي تلقّى طعناتٍ من طالب بمدرسة الرميلة بالأحساء، في بحر هذا الأسبوع! وتنثال على ذاكرتي الكليلة صور متلاحقة، بدأت من حادثة مدرسة المرامية، عندما حاصر عشرات الطلاب معلّميهم، وحبسوهم، واعتدوا عليهم بالأسلحة البيضاء، في مشهد هوليودي! لم يتصوّره أي تربوي، أو فرد في هذا المجتمع المسالم، ومرورًا بطلاب ثانوية رنية، الذين رشقوا معلّمهم بالأحذية، وبراميل النفايات! لتتوالى صور لحوادث لا تتوقف.. أحسن الإعلام في نقلها، وإظهارها أمام المجتمع، كي يدق ناقوس الخطر إزاء مكانة المعلّم التي تضعضعت، ووصلت للحضيض.
صدّقوني- وأنا مَن يعرف دقائق عالم التربية والتعليم - أن ما ظهر في الإعلام هو رأس جبل الجليد فقط، وإلاَّ فعشرات، بل مئات الحوادث المؤسفة تقع للمعلّمين، ولكنّها تُحتوى في تلك المدارس، إذ ما الذي بيد المعلّم - المسكين - وقتما تُطرح أمامه عشرات العُقل، والأشمغة، والمشالح.. تطلبه السماح والتنازل؟! بل ماذا يفعل المسكين أمام مديره - الرعديد - الذي يودّ ألا تشوّه صورة مدرسته أمام مسؤوليه، فيقوم بالضغط عليه، ويهدّده بالعواقب لكي يحوي المشكلة؟! بل ماذا يفعل هذا المعلم - المغلوب على أمره - أمام فضيحة ستلاحقه في المجتمع، بأنه ضُرب من صبية مراهقين، أو هُشِّمت سيارته، أو نِيل من عِرضه، وشتم، فيضطر اضطرارًا إلى بلع الأسى، ومضغ القهر، وكتم حسرته في نفسه، ومن ثمّ التوقيع على المحضر الجائر؛ بتنازله الذي أُخذ منه بسيف الزمالة، والقبيلة، والاضطرار! وهو الذي يدرك يقينًا أنه لا طائل، ولا جدوى من مسار بيروقراطي سينخرط فيه لنيل حقه، وربما يتقاعد ولم تنته قضيته! بَلهَ أن يحلم حتى بوقوف مسؤولي التعليم معه إلاَّ بالكلام.
حكايات تترى يتداولها المعلمون في منتدياتهم، وقصص تبلغ في تراجيدياتها الضحك والحزن في آنٍ، بل إنَّ أحد خبراء التربية في بلدي سمعته في مجلس خاص يجزم بأن وضع المعلّم المتردّي اليوم لم يصله، ولم يكنه أبدًا عبر تاريخنا الإسلامي كله، وعلى ذلك تأكدوا أيُّها السادة أننا إذا لم نُعِدْ للمعلّم مكانته، وهيبته، وثقته بنفسه، فإن المجتمع سيدفع أكلاف تضعضع مكانة مربي الأجيال، عندما نفيق وقد انبجس أمامنا جيل متفلّت، وغير مسؤول، أو مبالٍ- وربّما كانت هذه الحوادث نذره وطلائعه - تذكّروا وقتها أننا كلنا مسؤولون عن ذلك عبر سكوتنا على هذا الوضع والمآل الذي انتهى إليه المعلّم.
هذه دعوة أوجهها إلى معالي وزير التربية والتعليم الدكتور عبدالله العبيد، وهو الأسُّ في الميدان التربوي، والأبُ لكل المعلّمين والمعلمات، بأن يتفاعل مع نداءات تكررت بإيجاد هيئة أهلية للمعلمين، على غرار هيئة حقوق الإنسان الذي ترأسها يومًا ما، وما حكّ جلدك مثل ظفرك، إذ لا حلّ لمشاكل المعلمين، ونيل حقوقهم إلاَّ عبر هيئة تنبثق منهم، تُحاكي هيئات المجتمع المدني التي نعرف، كي تقوم بالدفاع عن المعلّم، وتترافع في المحاكم، وتأخذ بحقه. وبالتأكيد ستكون مستقلة عن الوزارة ومسؤوليها، فأحيانًا يكون المسؤول هو الخصم.
سترون ثمار وآثار مثل هذه الهيئة عبر بضع قضايا سيغطيها الإعلام من صنف القضايا التي عرضنا، ويقينًا سيتأدب أولئك الذين استرخصوا عِرض المعلّم، واستمرأوا ضربه، وإهانته، عندما يعلمون أن خمسمائة ألف معلّم ومعلمة هم خصومهم، وليس ذيّاك المعلّم لوحده، بل حتى إن المعلّم ليشعر حينها أنه يتكئ لركن متين، وأن لديه (عزوةً) يتحزّم بهم في نيل حقه أمام تلك المشالح المتمددة، أو المدير الجبان، ولا يحمل همَّ المحاكم وأكلافها المادية.
إضافة إلى أن مثل هذه الهيئة المدنية ستقوم بفعاليات مهنية أخرى تصبُّ في مآلاتها في صالح المعلم والوزارة، من مثل التأمين التعاوني، والصحي، وتطوير أداء المعلم، وتوعيته بواجباته الوطنية والاجتماعية.
كلنا أمل معالي الدكتور عبدالله بتفهمك للأداور الإيجابية لمثل هذه الهيئة، وسيسجل لك التاريخ التربوي والمدني - في وطني - سعيك ومبادرتك لهذا الأمر، وسيكتب بأحرف مضيئة أن الهيئة كانت أحد إنجازات الوزارة في عهدك.
ويبقى أخيرًا ألاَّ تقفو هذه الهيئة خُطى هيئة الصحافيين السعوديين، لا من قريب ولا بعيد، إلاَّ إذا أراد معالي الوزير وأدها بدهاء.