القبر
لمّا َقَتلَ قابيل هابيل تركه بالعراء، ولا يعلم كيف يدفن فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه قال:" يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ ھَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَة أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ .،وقيل: إنه مكث يحمل أخاه في جراب على
،عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين فرآهما يبحثان فقال: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ ھَذَا الْغُرَابِ . َفدََفنَ أخاه.، ومن هنا عُرف الدفن في القبر.
القبر في اللغة وفي الاستعمال القرآني
القبر: أصلها قبر، والقبر مدفن الإنسان، وجمعه قبور، والْمَقبُر المصدر، والمقبرَ ة: موضع القبور.
وورد في القرآن الكريم التصريح بذكر القبر مفردًا، كقوله تعالى : " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ
َّ�� وذكر جمعًا كما في قوله تعالى: " وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
إنّ للقبر وقعًا خاصًا في نفوس البشر، كيف لا، والإنسان يعلم أنه سيودع وحيدًا في قبره بلا مؤنس أو حبيب، ويزيد من هوله ظلمته وسواده مكانه في باطن الأرض، وتحت ُترابها.عن عبد الله بن بَحير، أنه سمع هانِئًامَوَْلى عثمان، قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وَقَّف على َقبْرٍ بكى حتى يَبُلَّ لحيته فقيل له تذْكَرُ الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي مِنْ هذا، فقال إن رسول الله قال:" إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بَعْدَه أيْسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدّ منه . وقال: وقال رسول الله ما رأيت منظرًا قَطُّ، إلا القبر أفظع منه.
مايقوله القبر للإنسان
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
إما إنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات ، لشغلكم عما أرى؛ الموت ، فأكثروا ذكر هاذم اللذات الموت فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه ، فيقول : أنا بيت الغربة ، وأنا بيت الوحدة ، وأنا بيت التراب ، وأنا بيت الدود ، فإذا دفن العبد المؤمن ، قال له القبر : مرحبا وأهلا أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي فإذا وليتك اليوم وصرت إلي ، فسترى صنيعي بك ، فيتسع له مد بصره ، ويفتح له باب إلى الجنة ، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر : لا مرحبا ولا أهلا ، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك ، فيلتئم عليه حتى يلتقي عليه ، وتختلف أضلاعه ، ويقيض له سبعون تنينا ، لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا ، فينهشنه ويخدشنه ، حتى يفضي به إلى الحساب ، إنما القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار
سنده حسن
أكثر الناس بطبيعتهم يخشون الوحدة، والأماكن المظلمة، لما فيها من وحشة وّتخيٌّلات لأَشياء لا تكون موجودة أصلا في ذلك المكان، فإذا كان هذا حالهم في حياتهم الدنيا، ولوقت محدود، فكيف يكون حالهم في حفرةٍ صغيرةٍ، ومغلقة تحت الأرض، ولا يمكن لأحد أن يخرج منها، أو يطلبالمساعدة من أحد، ولا يُنقذه في ذلك الوقت إلا عمله الصالح.
ضمة القبر
من أهوال القبر وفظاعته ضمة القبر وضغطته، وتكون أيضًا بقدوم الملكين "منكر ونكير،وسؤالهما.
ضمة القبر أو ضغطة القبر هي التقاء جانبيه على جسد الميت.وضمة القبر لا ينجو منها أحدًا كبيرًا كان أو صغيرًا، صالحًا أو طالحًا، وقد جاء في الأحاديث ما يدل على ذلك.ويضيَّق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه وإن كان منافقا قال : سمعت وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يقولون فقلت مثله لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض : التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها معذبا، حتى يبعثه الله من مضجعه وعنه رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله يومًا إلى سعد بن معاذ حين ذلك ، ُتوُفِّيَ ووُضِعَ في قبره، وسوِّيَ عليه، سَبَّحَ رسول الله ، قال: فلمّا صلى عليه رسول الله َفسَبَّحْنا طويلا، ثم َ كبَّرَ فكبّرْنا، فقيل: يا رسول الله، لِمَ سبَّحْت ، ثم َ كبْرت؟ قال: "لقد تضايَق على هذا العبد الصالح قبرُهُ، حتى فرَّجَهُ اللهُ عزو جل عَنْهُ, وعن ابن عمر رضي الله عنه، عن قال: "هذا الذي تحرّك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألْفًا من الملائكة ، لقد ضُمَّ ضَّمَّةً ثم ُفرِّج عنه.
"في الحديث إشارة إلى أن جميع ما يحصل للمؤمن من أنواع البلايا، حتى في أول منازل الآخرة، وهو القبر وعذابه وأهواله، لما اقتضته الحكمة الإلهية من التطهيرات، ورفع الدرجات، ألا ترى أن البلاء يخمد النفس، ويذلها ويدهشها عن طلب حظوظها، ولو لم يكن في البلاء إلا وجود الذلة لكفى، إذ مع الذلة تكون النصرة.
قال أبو القاسم السعدي"لا ينجو من ضغطة القبر صالح ولا طالح، غير أن الفرق بين المسلم والكافر فيها دوام الضغط للكافر، وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى قبره ثم يعود إلى الإفساح له.ولعل "سبب هذا الضغط، أنه ما من أحد إلا وقد أَلمَّ بذنب ما، فتدركه هذه الضغطة جزاء لها، ثم تدركه الرحمة.
وأما ضمة القبر للصغير فواقعة له، وذلك لما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "مات صبي " فقال رسول الله، لو أفلت أحد من ضمة القبر، أفلت هذا الصبي"وفي رواية لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي (.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
إذا قبر الميت ؛ أتاه ملكان أسودان أزرقان ، يقال لأحدهما : المنكر ، وللآخر : النكير ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ ! فيقول : هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال له : نم ، فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم ! فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه ، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ، وإن كان منافقا ؛ قال : سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله ، لا أدري ! فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ، فيقال للأرض : التئمي عليه ، فتلتئم عليه الأرض ، فتختلف أضلاعه ، فلا يزال فيها معذبا ، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك
حديث صحيح
فتنة القبر
قيل في قوله "تفتنون في قبوركم": أراد فتنة الملكين منكر ونكير . بسؤلهما للميت.
أنه كان يستعيذ من فتنة القبر وعذاب القبر، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي . وروي عنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل...-إلى قوله- ومن فتنة القبر،وعذاب القبر .
.،قال ابن حجر: "قوله: "ومن فتنة القبر": هي سؤال الملكين.وسبب تسمية الملكين بفتاني القبر –منكر ونكير-:" لأن في سؤالهما انتهارًا، وفي خلقهما صعوبة، أَلا ترى أنهما سميا منكرًا ونكيرا؟، فإنما سميا بذلك لأن خلقهما لا يشبه خلق الآدميين،ولا خلق الملائكة، ولا خلق الطير، ولا خلق البهائم، ولا خلق الهوام، بل هما خلق بديع وليس في خلقتهما أُنْس للناظرين إليهما، جعلها الله تكرمة للمؤمن يثبته وينصره، وهتكًا لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحل عليه العذاب.
وفتنة القبر خاص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث
بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار ، على بغلة له ، ونحن معه ، إذ حادت به فكادت تلقيه . وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة ( قال : كذا كان يقول الجريري ) فقال " من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ " فقال رجل : أنا . قال " فمتى مات هؤلاء ؟ " قال : ماتوا في الإشراك . فقال " إن هذه الأمة تبتلى في قبورها . فلولا أن لا تدافنوا ، لدعوت لله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه " ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال " تعوذوا بالله من عذاب النار " قالوا : نعوذ بالله من عذاب النار . فقال " تعوذوا بالله من عذاب القبر " قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر . قال " تعوذوا بالله من الفتن ، ما ظهر منها وما بطن " قالوا : نعوذ بالله من الفتن ، ما ظهر منها وما بطن . قال " تعوذوا بالله من فتنة الدجال " قالوا : نعوذ بالله من فتنة الدجال .
صحيح مسلم
قلت : يا رسول الله تبتلى هذه الأمة في قبورها فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة قال : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }
حديث صحيح
هل يفتن غير المكلفين
إن غير المكلف مثل الطفل، والمجنون ونحوهما، غير مكلفين شرعًا، لا بصلاة ولا حج، ولا يقع عليه عذاب في الدنيا من قصاص وحدود. وغير المكلفين مرفوعٌ عنهم القلم، ويمنع قتلهم في الجهاد، ويندد من تعرض لتعذيبهم أو قتلهم.
وأما بخصوص فتنة القبر لغير المكلفين فقد اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: "أنهم يمتحنون، وهو قول أكثر أهل السنة، ذكره أبو الحسن بن عبدوس عنهم ومن أدلتهم ما يرويه يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيِّب يقول: صليت وراء أبي هريرة على صبيّ لم يعمل خطيئة قط فسمعته يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر"وهذا يدل على أنه يفتن، وأيضًا فهذا مبنيٌ على أن أطفال الكفار الذين لم يكلفوا في الدنيا، يكلفون في الآخرة، فإذا امتحنوا في الآخرة لم يمتنع امتحانهم في القبور.
قال القرطبي: "حكم الصِّغار كالبالغين، يكمل العقل لهم ليعرفوا بذلك منزلتهم وسعادتهم ويلهمون الجواب عما يسألون عنه. ولم يعرض أصحاب هذا القول ما يثبت صحة ما ذهبوا إليه بتكليف الصغار بعد الموت.
أما القول الثاني: "أنهم لا يمتحنون في قبورهم، ذكر هذا القول القاضي أبو يعلى وقال : "لأن المحنة إنما تكون لمن يكلف في الدنيا.
وقال أصحاب هذا القول: "السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل، والطفل لا تمييز له بوجه ما، فكيف يقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ولو رد إليه عقله في القبر فإنه لا يسأل عما لهم يتمكن من معرفته والعلم به، ولا فائدة في هذا السؤال، وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة، فإن الله سبحانه يرسل إليهم رسولا ويأمرهم بطاعة أمره وعقولهم معهم، فمن أطاعه منهم نجا، ومن عصاه أدخله النار، فذلك امتحان بأمر يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان، كسؤال الملكين في القبر.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية قطعًا، فإن الله لا يعذب أحدًا بلا ذنب عمله، بل عذاب القبر قد يراد به إن الألم الذي لم يحصل للميت بسبب غيره وإن لم يكن عقوبة على عمل عمله، ومنه قوله الميت ليعذب ببكاء أهله عليه, أي يتألم بذلك ويتوجع منه لا أنه يعاقب بذنب الحيّ: " وَلَا تَزِرُ وزارة وِزْرَ أُخْرَى، وفي القبر من الآلام والهموم والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل فيتألم به، فيشرع للمصلي عليه أن يسأل الله تعالى أن يقيه ذلك العذاب.
وورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
قلت : يا رسول الله ! ذراري المؤمنين ؟ ! قال : من آبائهم ، قلت : يا رسول الله ! بلا عمل ؟ ! قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ، فقلت : وذراري المشركين ؟ ! قال : من آبائهم ، قلت : يا رسول الله ! بلا عمل ؟ ! قال : الله أعلم بما كانوا عاملين
حديث صحيح
فغير المكلفين لا يمتحنون في قبورهم في حياة البرزخ، لا يكون حالهم كالبالغين والعاقلين المميزين، وما يلاقونه في قبورهم ليس من قبيل العذاب، وإنما أمورٌ تصيب كل من يدخل حياة البرزخ من المؤمنين، يخففها الله تعالى عليهم، والله أعلم.
المطلب السادس: من يؤمَّن من فتنة القبر
ورد في الأخبار الصحاح، أن بعض الموتى لا تنالهم فتنة القبر، ولا يأتيهم الفّتانان، وذلك على ثلاثة أوجه، مضاف إلى عمل، ومضاف إلى حال بلاءٍ نزل بالموت، كالجهاد والرِّباط في سبيل الله، ومضاف إلى زمان,و الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك وردت في الشهيد والمرابط. وهناك غيرهم لايفتنون في قبورهم
أو ً لا: الشَّهيد
ففي الحديث الذي يرويه راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي أن رجلا قال : يارسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة.
يشير هذا الحديث: "إنه لو كان في هؤلاء المقتولين نفاق، كان إذا التقى الزحفان، وبرقت السيوف فروا،لأنه من شأن المنافق الفرار والروغان عند ذلك، ومن شأن المؤمن البذل والتسليم لله نفسًا وهيجان حمية الله، والتعصب له لإعلاء كلمته، فهذا قد أظهر ما في ضميره حيث برز للحرب والقتل، فلماذا يُعاد عليه السؤال في القبر.
ويضيف القرطبي شخصا آخر لا يفتن في قبره وهو"الصِّدّيق"، فيقول: "إذا كان الشهيد لا يفتن فالصدِّيق أجل خطرًا وأعظمُ أجرًا، فهو أحرى أن لا يفتن، لأنه المقدم ذكره في التنزيل ، وقدمه على الشهداء في قوله تعالى: "فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِي ن أَنْعَمَ للهَّ عَلَيْھِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّھَدَاءِ جاء في المرابط الذي هو أقل مرتبة من الشهيد أنه لا يُفتن، فكيف بمن هو أعلى مرتبة منه ومن الشهيد؟ والله أعلم فتأمله.
المرابط في سبيل الله
وممن يؤمن من فتنة القبر المرابط في سبيل الله تعالى، فعن سلمان ) رضي الله عنه ،قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفّتان.
ورويَ عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه، أنه كان يحدّث عن رسول الله أنه قال : "كل
ميت يختم على عمله، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، وسمعت رسول الله يقول: "المجاهد من جاهد نفسه" ويأمن من فتنة القبر"،
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: "من مات مرابطًا في سبيل الله، أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل، وأُجري عليه رزقه، وأمن من الفّتان، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع.
وأمان الشهيد والمرابط في سبيل الله من فتنةِ القبر، مكرمة منه سبحانه وتعالى لهم بعد قبض أرواحهم، لما يلاقونه من فتنة السيوف في ساحات الجهاد، والرباط في الثغور دفاعًا عن حياض الإسلام وديار المسلمين، ورد كيد الأعداء وجهادهم، وهذه بشرى من الحبيب لكل مجاهدٍ ، ومرابطٍ في سبيل الله في ديار الإسلام والمسلمين.
تمثيل غروب الشمس للميت
ثبت في الأحاديث النبوية أن غروب الشمس يُمَثَّلُ للميت، فعن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الميِّت القبر مُثَِّلتِ الشمس عند غروبها، فيجلس يمسح عينيه، ويقول دعوني أُصلي"مثِّلت الشمس: أي شبهت، وهذا في حق المؤمنين، ولعله عند نزول الملكين، ويمكن كونه بعد السؤال تنبيها على رفاهيته.
وعلى كلا التفسيريْن اللذين قدمهما السيوطي، فإن في تمثيل الشمس للمؤمن في حياة البرزخ تكريمًا له، وبشارة خير لما بعدها،وقد يكون هذا في حق المؤمن الذي اعتاد على أداء الصلاة كلما استيقظ من نومه،واستهل يومه بعبادة الله تعالى وذكره في الدنيا، وعند رد روحه للسؤال ظن أنه استيقظ من نومه وقام إلى صلاته، وجد منكر ونكير أمامه لسؤاله.
التعبد في البرزخ
المؤمن الذي اعتاد على عبادة الله تعالى في جميع أوقاته في حياته الدنيا، يبقى على الطريق ذاتِها بعد انتقاله إلى الحياة البرزخية.
وثبت في الأحاديث الشريفة من رؤيته صلى الله عليه وسلم لبعض الأنبياء وهم يصّلون في قبورهم، واختلفت تأويلات العلماء في ماهية هذه الصلاة، هل هي صلاة كالتي نعرفها، تؤدى بالروح والجسد، أم هي صلاة بمعنى الدعاء والذكر.
وأصل هذه المسألة في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، حيث قال: قال صلى الله عليه وسلم لقد رأيَْتني في الحِجْر، وقريش تسألني عن مَسْراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أُثِْبتْها، فكربت كربة ما كربت مثله قط"، قال: "فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أَنبأتهم به، وقد رأيُْتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائمٌ يصلي، فإذا رجل ضربٌ جعد، كأنه من رجال َ شُنوءَة، وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم –يعني نفسه.فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد هذا مالِكٌ صاحب النار، فسّلم عليه فالتفتُّ إليه، فبدأني بالسَّلام.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله قال مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره.
قال ابن حجر: "يجوز أن يكون لروحه –سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام- اتصال بجسده في الأرض، فلذلك يتمكن من الصلاة وروحه مستقرة في السماء.
وقال القاضي عياض: "وقد تكون الصلاة هنا بمعنى الدعاء والذكر، وهي من أعمال الآخرة، الأنبياء، ويحتمل أن ويؤكد أحد التأويلات فيه، وأنها الصلاة المعهودة، ما ذكر من أنه أَمَّ لا " : بدليل قوله رآه، فتكون صلاته حقيقية كصلاة عيسى لم يمت وأنه يكون موسى ممن تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا موسى آخذ بساق العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور، لكن يرد هذا التأويل يصلي في قبره، عند الكثيب الأحمر والقبر لا يكون إلا لميت، فإن قيل: فكيف رأى قوله في قبره يصلي، وكيف صلى بالأنبياء في حديث الإسراء ببيت المقدس على ما جاء في موسى
الحديث، وقد جاء في الحديث نفسه أنه وجدهم على مراتبهم في السلام عليه، ورحبوا به، قيل :في قبره وعند الكثيب الأحمر، كانت قبل صعوده إلى السماء وفي يحتمل أن رؤيته لموسى قد سبقه إلى السماء، ويحتمل أنه رأى الأنبياء، وصلى طريقه إلى بيت المقدس، ثم وجد موسى بهم على تلك الحال لأول ما رآهم ثم سألوه ورحبوا به، أو يكون اجتماعه بهم، وصلاته ورؤيته بعد انصرافه ورجوعه عند سدرة المنتهى موسى رأى موسى رؤية حقيقية في اليقظة، وأن موسى ، ولعلهذا الحديث يدل بظاهره على أنه كان في قبره حيًا، يصلي فيه الصلاة التي كان يصليها في الحياة، وهذا كله ممكن لا إحالة في شيء منه، وقد صح أن الشهداء أحياء يرزقون، ووجد منهم من لم يتغير في قبره من السنين، وإذا كان هذا في الشهداء، كان في الأنبياء أحرى وأولى، فإن قيل: كيف يصّلون بعد الموت وليست تلك الحال تكليفًا؟ فالجواب: أن ذلك ليس بحكم التكليف، وإنما ذلك بحكم الإكرام لهم والتشريف، وذلك أنهم في الدنيا حُبِّب إليهم عبادة الله، والصلاة، بحيث كانوا يلازمون ذلك،ثم توفوا وهم على ذلك، فشرفهم الله تعالى بعد موتهم بأن أبقى عليهم ما كانوا يحبون،وما عرفوا به،فتكون عبادتهم إلهامية كعبادة الملائكة،لا تكليفية .
يتضح من ظاهر الأحاديث السابقة أن التعبد في حياة البرزخ أمر خاص بالأنبياء، ولم أجد دليلا صحيحا فيه إشارة إلى تعبد غير الأنبياء في قبورهم.
وعبادة الأنبياء في حياة البرزخ قد تكون ذكرا ودعاء، وقد تكون الصلاة التي أخبرنا عنها في السنة حقيقية ولزمن محدود،ولا يمنع دوام ذلك إلى الآن، لقدرته سبحانه وتعالى، وإكراما منه عزّ وجل لأنبيائه، ولعلها أرواحهم قائمة تصلي دون أرواحهم، والله أعلم.
عرض مقعد الميت عليه
إذا دُفِن العبد، وتمَّ سؤاله يعرض عليه مقعده، فإن كان من أهل الجنة عرض عليه مقعده من الجنة، وإن كان من أهل النار عرض عليه مقعده من النار.
ومما استدل به العلماء في ذلك قوله تعالى:" النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.أي أنَّ آل فرعون "يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسامهم في قبورها من حرِّها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم، وخلدت في نار جهنم، و"هذا العرض في البرزخ.
فأخبر تعالى أن الكافرين يعرضون على النار، كما أن أهل السّعادة يعرضون على الجنان بالخبر الصحيح، وهل كل مؤمن يعرض على الجنان؟ فقيل: ذلك مخصوص بالمؤمن الكامل الإيمان، ومن أراد الله إنجاءه من النار، وأما من أنفذ الله عليه وعيده من المخلطين، الذين خلطوا عم ً لا صالحًا وآخر سيئًا فله مقعدان يراها جميعًا كما أنه يرى عمله شخصين في وقتين أو في وقت واحد قبيحًا وحسنًا، وقد يحتمل أن يراد بأهل الجنة كل من يدخلها كيفما كان، والله أعلم"، وقيل:" إن هذا العرض إنما هو على الروح وحدها، ويجوز أن يكون مع جزء من البدن، ويجوز أن يكون عليه مع جميع الجسد فيرد إليه الروح كما ترد عند المسألة حين يقعده الملكان، ويقال له : انظر إلى معقدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة
وكيفما كان فإن العذاب محسوس، والألم موجود، والأمر شديد، وقد ضرب بعض العلماء لتعذيب الروح مثلا في النائم، فإن روحه تعذب أو تنعم والجسد لا يحس بشيء من ذلك قال: وأما ما جاء في السنة المطهرة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله إِنَّ أَحَدَ كمْ إَِذا مَات عُرضَ عََليْهِ مَقْعَدُهُ ِبالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، َفمِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ،وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّار، َفمِنْ أَهْلِ النَّار،ِ فَيُقَالُ: هََذا مَقْعَدُكَ، حَتَّى يَبْعََثكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
ويحتمل أن يراد بالغداة والعشي غداة واحدة، وعشية واحدة، يكون العرض فيها، ولا يصل إلى مقعده إلى يوم البعث، ويحتمل أن يريد كل غداة وعشي، وذلك لا يكون إلا بأن يكون الإحياء بجزء منه، فإنا نشاهد الميت ميتا بالغداة والعشي وذلك يمنع إحياء جميعه، وإعادة جسمه، ولا يمتنع أن تعاد الحياة في جزء أو أجزاء، وتصح مخاطبته والعرض عليه"
وفي حكمة عرض المقعد على الكافر يقول القرطبي: "هذا ضرب من العذاب كبير، وعندنا المثال في الدنيا، وذلك كمن عرض عليه القتل أو غيره من آلات العذاب، أو من يهدد به من غير أن يرى الآلة فعرض مقعد الميت عليه نعمةٌ وبشرى للعبد المؤمن وأنْسٌ له في وحشة الوحدة في قبره، وزيادة له في الشوق للقاء ربه سبحانه، والجلوس على مقعده في الجنة، وأما الكافر فعرض مقعده عليه من النار عذاب له في قبره، وزيادة في تهديده ووعيده إلى يوم يبعث ويرد إلى جهنم حيث مقعده من العذاب –أعاذنا الله تعالى من سوء العاقبة.
بلاء جسد الميت.
إذا مات الإنسان فإن جسده يبلى ويأكله التراب إلا عَجْبُ الذنب، وهذا يكون في حق وليس من الإنسان عامة الناس، لما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ابن آدم يأكله التراب ، إلا شيء لا يبلى، إلا عظمًا واحدًا وهو عَجْبُ الذنب ، ومنه يركب الخلق يوم القيامة.
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه،قال: قال عَجْبُ الذنب منه خلق وفيه يركب.قال ابن حجر: "هذا عام يخص منه الأنبياء، لأن الأرض لا تأكل أجسادهم.
وقال القرطبي: "الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء والشهداء، وأنهم أحياء، قال الله تعالى
: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )ولذلك لا يغسلون ولا يصلى عليهم، ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة فكل شهيد حيْ يُرْزَقُ عِنْدَ رَبِّھِ شهداء أحد وغيرهم.
قال البيهقي: "والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بعدما قبضوا ردت إليهم أرواحهم فهم أحياء عند رَبّهم، كالشهداء ، وقد رأى نبينا جماعة منهم ليلة المعراج، وأُمِرنا بالصلاة والسلام عليه، وأخبر وخبره صدق، أن صلاتنا معروضة عليه، وأن سلامنا يبلغه، وأن
يليه تحريم اجساد الأنبياء على الأرض