في وقت المغيب مع توقف هطول المطر جلسا في المقهى المعتاد :
قال لها بعد ان تناول بعض القهوه : هاقد عدتي الى لندن والتقينا ثانيه ،،، وضحك بسعاده ،،، مااقرب الدنيا اذا ارادت لنا اللقاء ،،،
قالت وهي تنظر للبعيد : هي لم ترضى عني يوماً تعودت على عداءها لي ،،،
قاطعها قائلاً : صدقيني ليست الدنيا صديقاً لأحد أذاقت الكل من كأسها المر ،،، أنظري حولك هؤلاء البشر الكل بداخله مابداخله من الهموم لكن تبقى حبيسة القلوب ،،، ضاقت الأرض بنا فجمعت خطانا فالتقينا وبث كل منا للآخر ما في أعماق روحه ،،،
سيدتي من يراني من بعيد يبدو على مظاهر الشباب والوسامه والترف ،،، لكن هل أحد يعلم ما عانيته في حياتي ،،، عشت مع والدي واسرتي
في سعاده وهناء حتى كان يوم،،، عشت لحظات رحيل والدي في المستشفى كنت بجانبه وهويرحل اقضي ساعات طوال أتأمله واعد أنفاسه الأخيره في الدنيا كم تمنيت ان اهبه سنين عمري ليبقى ،،، وسط سكون مهيب في العنايه المركزه لا يقطع هذا الصمت الا صوت اجهزة الحياة كناقوس الكنيسه الحزين الذي يترقب النهايه ورحل والدي ووضعته في قبره بيدي وكانت دموعي تبلل أكفانه الطاهره ،،، وبعد سنوات قليله لحقت به والدتي وعشت معها نفس اللحظات في العنايه المشدده وان طالت لعدة اسابيع من العذاب بين الأمل واليأس في النجاة تجرعت خلالها مراره فراقها ووضعتها بيدي هاتين في قبرها حتى توارى جسدها الطاهر وسط سيل من دموعي الحاره ،،، في مجتمع لا يرحم ان يرى دموع الرجل وكأن الرجل لا يخضع لقوانين البشر ،،،
بعدها بسنوات قلائل لحق بها اخي الأكبر رحل شاباً بمرض عضال لم يمهله طويلاً ،،، كنت بجواره بنفس سيناريوهات الرحيل السابقه ،،، كان يصحو من غيبوبته ويتأملني صامتاً ثم يعود لغيبوبته ،،، مهما اصف تلك اللحظات الأخيره لأحبتي
يعجز قلمي عن تجسيد آلامها وعذاباتها ،،، وقضى الله أمره
ووضعته هو الآخر في قبره كم شعرت بالبروده تجتاح جسدي كله لفراقه ،،، وأقاربي ومعارفي حولي لا يرحمون دموعي التي تتساقط كالمطر ،،، يذكروني برجولتي التي لا يجب ان يروا دموعها ابداً ابداً ،،،
انتهت كل المراسم المعتاده و أنفض الناس من حولي ،،،، وبقيت وحيداً
أشعر باأرواحهم حولي ،،، وارى صورهم التى بقيت على المرآه
وأتسآل دوماً
هل كتب علي أن أعيش لحظات الرحيل المر لأغلى الناس وأقربهم ؟
هل كتب علي أن اكون وحيداً بدونهم اتجرع مرار فراقهم ولوعة حرمانهم
سيدتي انت الوحيده في هذا الكون التي فتحت لها قلبي ،،،
قالت بصوت خافت : اشعر بكل ما مر بك ،،، ومن حسن حظك أنك تعيش هنا لتنسى ،،، فلا ذكريات لك هنا مع من رحل من احبتك .
قاطعها قائلاً : منذ اسابيع مضت حضرت هنا قداساً لأبنة جاري الإنجليزي العجوز طلب مرافقتي لأحضر مراسم دفنها رحلت شابه جميله كانت تدرس في كندا لا أنسى ذلك اليوم البارد الممطر مشينا خلف التابوت كانت السيدات متشحات بالسواد في غاية الأناقة والجمال الإنجليزي البارد كقوالب الثلج ،،، المدافن هنا كالبساتين الخضراء ولها قدسيه كبيرة ،،،،ليست موحشه في صحارى مقفره يزورها الناس ويضعون اكاليل الورود عليها من وقت لآخر يخاطبون احبابهم ،،، ربما يسمعون همساتهم ،،، وتفرح ارواحهم بزيارتهم
لا فرق في لحظات الموت بقى جاري ليلته يصلي من اجلها لترتاح
كان ايمانه قوياً بأن الله يسمع نجواه
قالت : لا أعرف كم تستطيع قلوبنا الصمود أمام هذه التحديات امام آلامها وجراحها ؟؟؟
نظر اليها طويلاً وقال : نعم هذا هو السؤال الذي لا نملك جوابه سيدتي
طلب كوباً آخر من القهوة وأشعل سيجارته واخذ يتنفسها بعمق ويتأمل دوائر الدخان حوله وقال :
حدثيني عن حياتك هناك في العاصمه .
قالت : لا جديد اجمل اوقاتي مساءً كم اعشق الليل وسكونه اطل من شرفتي على الحديقة أتأمل السماء والنجوم وهي تراقبني وأفكر في البعيد وأتأمل هذا الكون الكبير ،،،
قال ذكرتني بشيء : اتعلمين أن الأنجليز يميلون للوحده وللكآبه لاأعلم هل هوبسبب الطقس الغائم الممطر دوماً أم في جيناتهم .
حينما قدمت الى لندن قبل عدة سنوات كان لي جاره من ايرلندا جميله جداً رغم كبر سنها تعيش وحيده في منزلها الكبير القديم ومعها كلبها دعتني يوما الى فنجان من القهوة جلسنا سوياً في الحديقه ،،، وسط الأشجار الباسقه تقاوم رياح الشتاء البارده بصوت اشبه بالبكاء الحزين من حولنا ،،،
شكت لي من شعورها الدائم بالإكتئاب رغم انها تعمل
في وسط اعلامي شهير،،، بيتها أثري مليء بالتحف الفرنسيه القديمه
وقطع الأثاث العتيق ،،، كل شيء فيه موحش وكئيب ،،،
اخذتني تريني مكتبتها الكبيره حيث تسكن الكتب القديمه تذكرني بروايات تشالز ديكنز واوليفر تويست وآل برونتي ...
ثم ذهبت لتحضر بعض القهوه
سمعت اصواتاً غريبه وصريرابواب تغلق ،،،، قلت لها هل معك احد هنا ضحكت وقالت :
لا بمفردي ،،، بيتي هذا توراثته الاجيال في العائله حتى آل إلي لا يخلوا من بعض الأشباح ،،، لا تخف تعودت على الوضع ،،، وليس بيتي فقط معظم البيوت
في بريطانيا مسكونه بالأشباح ،،،
سألتها بفضول : ماهي الأشباح ؟؟؟؟
قالت : أرواح من سكنوا هذه البيوت تبقى فيها بعد وفاتهم أشعر بوجودهم حولي ،،
قلت لها : لا اظن سيدتي الأرواح تصعد الى خالقها
ضحكنا سوياً ،،،، ودعتها وكانت زيارتي الأخيره لها ...
02-01-2013, 06:54 PM
